مناجاة: يا إلهي..
17 مارس, 2024ندوة العلماء
18 مايو, 2024حضور المتلقِّي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربيّة (1)
أ.د.وليد إبراهيم القصَاب
تمهيد
بدأ النقد الانطباعي يتراجع منذ أوائل القرن الماضي أمام مدرسة نقدية جديدة قامت على الاهتمام بالعمل الأدبي نفسه، وتركيز اهتمامها حول هذا العمل وحده، بدلا من استفراغ الجهد في دراسة شخصية صاحبه، والملابسات التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية التي تحيط به.
وتنظر هذه المدرسة الجديدة إلى العمل الأدبي على أنه جسد لغوي، قوامه الأساسي هو اللغة، ومن هذا المنظور تهتم بالأثر الأدبي وحده، وتحاول الكشف عن أسراره اللغوية، وطاقاته الأسلوبية، وتحاول تحليل ذلك كله تحليلاً موضوعيا عميقا.
وقد حدث ذلك كله بسبب التطور الهائل الذي بلغته الدراسات اللغوية في القرن الماضي عندما كان المنهج التاريخي يبسط ظله على الدراسات الإنسانية كلها، وما لبث سلطان اللغويين،وما بلغوه من شأو بعيد في دراساتهم وأبحاثهم أن امتد إلى الدرس الأدبي ليترك عليه بصماته الواضحة المتميزة. وسيطرت اللسانيات الحديثة – التي عدّ العالم السويسري فردينان دو سوسير رائدها– على ساحة الدراسات الأدبية والنقدية، فغلب على النقد الأدبيّ الحداثيّ وما بعد الحداثيّ الاهتمام باللغة، وغلت بعض المناهج في هذا الاهتمام، حتى لم تعد تهتمّ من العمل الأدبيّ بشيء غير لغته.
وقدّمت اللسانيات مجموعة من المناهج النقدية التي عنيت بالوقوف عند “داخلية” العمل الأدبيّ، وهي مناهج كثيرة، مختلط بعضها ببعض اختلاطا يجعل التمييز بينها أحيانا صعبا غير ميسور. ومن هذه المناهج اللغوية: الأسلوبية، والشكلية الروسية، والشكلية التشيكية،والبنيوية، والسيميائية، وغيرها.
وقُدمت الأسلوبية، أو علم الأسلوب،على أنها خلف للبلاغة القديمة،أ وأنها البديل والوريث الوحيد لها، وقيل إنّ ” البلاغة هي سلف الأسلوبية”(1).
وتحمّس قوم منا لهذا الجديد، فاندفعوا في قول غير متوازن ؛ فرموا البلاغة العربية بالعقم، وقالوا إننا” ما زلنا ندرّس طلابنا في المدارس والجامعات البلاغة بعلومها الثلاثة، ولا نعي أنّ ما ندرّسه لهم لم يعد يصلح لشيء؛ فلا هو أداة نقدية صالحة للتوظيف، ولا هو أساس لمعرفة ذوقية أو تبصّر جماليّ”.
إنّ علم الأسلوب هو علم لغوي غربيّ، نشأ من اللسانيات الحديثة، وهو محاولة للقاء بين علم اللغة والنقد الأدبي ؛ إذ يقدم اللغويون هذا العلم للناقد الأدبي كي يستعين به على دراسة المادة اللغوية في العمل الأدبي مصنفة تصنيفا علميا دقيقا، يساعد – فيما يقال– على فهم العمل الذي بين يديه فهما أقرب إلى الموضوعية؛ إذ يركّز على طبيعة الأدب، وخصائصه اللغوية، وما يميّزه من الكلام العاديّ.
ولكنّ الحقّ أن البلاغة العربية – بعلومها الثلاثة – هي علم الأسلوب العربيّ، وما يتمّ اليوم تحت ما يسمى “الأسلوبية” أو علم الأسلوب ما هو إلا توزيع جديد لمباحث البلاغة العربية المختلفة، ويتمّ ذلك – في أغلب الأحيان– بمصطلحات جديدة استبدلت بمصطلحات قديمة معروفة.
إن علم المعاني على سبيل المثال اعتنى بالبحث في صور الألفاظ والتراكيب ونظمها على نسق معين لاعتبارات مختلفة تخضع فيه للموضوع،و للسياق، ولمقتضى الحال، ولغير ذلك.
وأما البيان – أو علم الصورة بتعبير نقاد اليوم – فهو إخراج الدلالة التي رسم مبادئها علم المعاني بصياغة غير مباشرة، أي بصياغة تصويرية مجازية، وبذلك يرتقي الكلام الذي تهندس في علم المعاني من مستوى الكلام العادي،أو المباشر، إلى مستوى الكلام الأدبي؛ إذ في البيان يُعدل عن التعبير المألوف إلى التعبير الباهر المدهش، يتجاوز الكلامُ فيه الصحة والسلامة ومراعاة الحال والسياق والمخاطب والظرف ليضيف إليها الجمال، أي تقديم جميع ما تقدّم بأسلوب ماتع شائق جذاب، فيكون بذلك أكثر بلوغا، وأقدر على التأثير والوصول إلى المتلقي؛ إذ تتجاوز اللغة فيه وظيفة الإبلاغ والتوصيل فقط،إلى الإبلاغ والإمتاع معا، وإلى التوصيل والتأثير في وقت واحد.
ثم يأتي علم البديع ليقدّم للأسلوب جماليات أخرى، تحسّنه لفظيا ومعنويا، وتقدّم له وسائل إيقاعية،وطرائق مختلفة تشكّله أكثر ترابطا ومفارقة.
إنّ هذه العلوم الثلاثة متضافرة معا لتشكيل الأسلوب، ولتحقيق جمالياته. ولا يعد أحدهما – كما ذهب إلى ذلك بعضهم– أدنى منزلة أو أقل أهمية، بل هي جميعا ذات شأن في الكلام، وكلٌّ منها يؤدي وظيفة معينة، أو يناط به تحقيق غرض لا يحققه العلم الآخر.
عوامل تشكيل الأسلوب:
تنبهت البلاغة العربية إلى أن الأسلوب متعدد الجوانب، وهو يخضع في تشكله على نسق معين لمجموعة من العوامل،من أبرزها:المؤلف،والموقف، والنص، والمتلقي.وهو بالتالي ليس ملكا لواحد من هذه العناصر فحسب.
وقد بيّن حازم القرطاجنيّ الجهات المختلفة التي تخضع لها الأساليب ومذاهب القول، وهو ممّا ينبغي مراعاته.
قال حازم: ” والأقاويل الشعرية أيضا تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر فيها بإيقاع الحيل، التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه، أو التي هي أعوان للعمدة. وتلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه،أو ما يرجع إلى القائل،أو ما يرجع إلى المقول فيه، أو ما يرجع إلى المقول له”(2).
وبيّن حازم ما يرجع إلى كلّ جهة من هذه الجهات، ثمّ قال في موضع آخر: ” وإذ قد تبين أن الكلام يهيأ للقبول من جهة ما يرجع إليه، وما يرجع إلى القائل، وما يرجع إلى المقول فيه، والمقول له ؛ فواجب أن يُعلم أن للكلام في كل مأخذ من تلك المأخذ، التي بها تغتر النفوس لقبوله، هيئاتٍ من جهة ما يلحقه من العبارات،وما يتكرر فيه من المسموعات..”(3) وهذا ما تشير إليه الأسلوبية الحديثة ؛ فتقول: “إن عنصر الأسلوب لا يمكن تجريده من النّص،ولا من المؤلف، ولا من المتلقين”(4).
وهنالك تعريفات متنوعة للأسلوب بحسب النظر إلى عنصر من هذه العناصر، كما أنّ هنالك أشكالا من الدراسات البلاغية الأسلوبية تتناول كل واحد من هذه العناصر، وتبرز دوره في تشكيل الأسلوب وتوجيهه وجهة معينة.
يقول فيلي سانديرس: “للأسلوب عموما بنية كلية منظمة تراتبيا، تميّز بطريقتين واضحتين من التصنيف، هما: مستويات أسلوبية، وتمثّل المستوى الأسلوبي الفردي الناتج عن الظروف النفسية والاجتماعية لشخص ما. وأنماط أسلوبية، وتشير إلى الجوانب الأسلوبية الجماعية والسياقية والوظيفية والنصّية، بالنظر إلى الانتماء الجماعيّ للفرد في مجتمع له قواعده ومعاييره وعاداته الخاصّة(5).
إنّ تشكيل الأسلوب إذن يخضع للفرد المبدع، ولطبيعة النّصّ وموضوعه، والمتلقي المخاطب بهذا النّص؛ فلأسلوب إذن ليس اختيارًا حرًّا، يملك فيه المبدع أن يختار ما يشاء من الألفاظ والعبارات، ولكنّه اختيار محكوم بعوامل أخرى. (يتبع)
المراجع:
(1). نحو أسلوبية جديدة، فيليسانديرس، ترجمة: خال محمود جمعة: ص: 95 “دار الفكر، دمشق: 1424/2003”
(2). منهاج البلغاء: ص 346، تحقيق محمدالحبيب ابن الخوجة، تونس: 1966
(3). السابق: ص 347
(4). انظر: موسى ريايعة “الأسلوبية: الاتصال والتأثير”، ص: 28 “مجلة علامات، ج27/م7/ ذوالقعدة: 1418/مارس:1998”
(5). نحو أسلوبية لسانية: ص190، وانظر “الأسلوبية: منهجا نقديا” محمد عزّام، وزارة الثقافة، دمشق: 1989