“وقعة جَلُولاء” (1)

الصامدون في وجه الاستعمار (6/الأخيرة)
5 أكتوبر, 2021
“وقعة جَلُولاء” (2/الأخيرة)
23 ديسمبر, 2021

“وقعة جَلُولاء” (1)

الدكتور / أبو سحبان روح القدس الندوي

[لا جرم أن “وقعة جلولاء .. ذات أهمية كبيرة في التاريخ، وقعت في سنة 16، أو 17، أو 19 من الهجرة على اختلاف الأقوال، اعتنى بذكرها المؤرخون وأصحاب التراجم، ذكر وقعتها ابن كثير في “البداية والنهاية” (7: 69) في حوادث سنة ست عشرة، ومن ثم انتزعتها للوقوف عليها تعميمًا للفائدة.

أما “جلولاء” فضبطها ابن خلكان في “وفيات الأعيان” (3: 16): “بفتح الجيم وضم اللام ومدّ آخره “قائلاً: أنها” قرية بناحية فارس، كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم واعتنى بذكرها العلامة شبلي النعماني في كتابه “الفاروق”]

لما سار كسرى(1) وهو يزدجرد بن شهريار من المدائن(2) هاربًا إلى حلوان(3) شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس وأمّر على الجميع مهران(4) وسار كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقًا عظيمًا حولها، وأقاموا بها في العدد والعدد وآلات الحصار، فكتب سعد(5) إلى عمر(6) يخبره بذلك، فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة(7) أميرًا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو(8)، وعلى الميمنة سعد بن مالك(9) وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك(10)، وعلى الساقة(11) عمرو بن مرة الجهني(12)، ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشًا كثيفًا يقارب اثني عشر ألفًا، من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورؤوس العرب، وذلك في صفر من هذه السنة(13) بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالاً لم يسمع بمثله، وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه، مرة بعد أخرى، وحمي القتال، واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرّضهم على القتال والتوكل على الله، وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت، وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدًا حتى يفنوا(14) العرب.

فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالاً شديدًا لم يعهد مثله حتى فني النشاب(15) من الطرفين، وتقصفت الرماح(16) من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزنيات(17)، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءًا، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم(18) ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم إنا كالّون(19) وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس، فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس وجعلوا يأخذون في التحاجز(20) من أجل إقبال الليل.

الهوامش والتعليقات:

  1. لقب ملوك الفرس وهو معرَّب وأصله بالفارسية الحديثة خسرَو، (راجع ما كتبه د/ عبد الرحيم في تعليقه على “المعرّب” للجواليقي).
  2. بلدة قديمة مبنيّة على الدجلة، وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبع فراسخ من بغداد. قاله السمعاني في “الأنساب” (12: 143).
  3. بضم فسكون “وهي آخر حد عرض سواد العراق مما يلي الجبال، وهي بلدة كبيرة وخمة الهواء، وخرب أكثرها” كما في المصدر السابق (4: 213). وزاد فيه “والمشهور بالنسبة إليها أبو محمد الحسن بن علي الخلاّل الحلواني صاحب كتاب السنن، روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وكان ثقة حافظًا توفي سنة 242هـ.
  4. الرازي أمير وقعة جلولاء من قِبَل الفرس، يأتي ذكره في فتح حلوان.
  5. هو ابن أبي وقّاص المتوفى سنة 55هـ، فاتح العراق ومدائن كسرى.
  6. هو ابن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، وهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري، وكانوا يؤرخون بالوقائع، وأول من دوّن الدواوين في الإسلام، ونزل الوحي بموافقته في عدة قضايا، يراجع “الفاروق” للعلامة شبلي النعماني.
  7. ابن أبي وقاص، ابن أخي سعد بن أبي وقاص، لقبه المرقال لأنه كان يرقل في الحرب أي يسرع، والإرقال: ضرب من العَدْو وقال الصفدي في “الوافي بالوفيات” (27: 216): “لم تثبت له صحبة، نزل الكوفة وأسلم يوم الفتح، وكان من الفضلاء الأخيار ومن الأبطال البُهم، فُقئت عينه يوم اليرموك، ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد، فشهد القادسية وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان سبب الفتح على المسلمين، وهو الذي افتتح جلولاء، ولم يشهدها سعد، ثم شهدها ثم مع علي الجمل وشهد صفين، وأبلى فيها بلاء حسنًا مذكورًا، وبيده راية علي على الرجالة يوم صفين، ويومئذ قُتل”.
  8. 8. “التيمي (000 – نحو 40هـ) أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، وسكن الكوفة وأدرك وقعة صفين، فحضرها مع علي، وكان شاعرًا فحلاً”. قاله الزركلي في “الأعلام” (6: 48).
  9. هو ابن أبي وقاص المذكور آنفاً برقم (5).
  10. ابن عتبة الزهري، لم أقف على ترجمته أكثر ما ذُكر.
  11. ساقة الجيش: مؤخَّره.
  12. له صحبة ورواية قليلة، وكان قوّالاً بالحق، توفي في حدود الستين، كذا في “الوافي بالوفيات” (23: 304) ونقل ابن حجر في الإصابة (5: 15) قول ابن سعد “كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شيخًا كبيرًا، وشهد المشاهد، يكنى أبا طلحة وأبا مريم”.
  13. أي ست عشرة من الهجرة، وذلك عند ابن كثير.
  14. من الإفناء.
  15. النُّشَّاب: النبل، الواحدة بهاء، وبالفتح متخِذُه. وقوم نشابة: يرمون به، قاله المجد في “القاموس” (ن ش ب).
  16. أي تكسَّرت.
  17. نوع من السّلاح يشبه الفأس كما في هامش “البداية والنهاية”.

أما “الطبرزين” فلم تذكره المعاجم، صرّح به د. عبد الرحيم ثم نقل ما قاله الخفاجي في “شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل” (ص:176): “سمّي به لأنهم كانوا يعلّقونه في السروج ويقال له عند العجم تبر.

وقال أدّي شير [في الألفاظ الفارسية المعرَّبة] ص: 111، آلة من السلاح تشبه الطبر أو هو الطبر بعينه، وهذا أصح لأن أصل معناه الطبر المعلّق في السرج، فإن الفرس كان من عادتهم أن يعلقوا الطبر في السروج” 1هـ.

ونقل د. عبد الرحيم في تحقيقه “للمعرَّب” (ص:449) ما قاله دكتور محمد معين أستاذ جامعة تهران في تحقيقه لـ”برهان قاطع” (تاليف محمد بن حسين بن خلف تبريزي):

“إن “زين” في هذه الكلمة ليس بمعنى السرج وهو المعنى المعروف له، إنما هو بمعنى السلاح وهذا معنى “زين” Zen بالفهلوية، فمعنى اللفظ “فأس السلاح” تمييزًا له من تبر وهو فأس لقطع الأشجار، وما إلى ذلك.

قلت: أما أدِّي شير الكلداني (1867-1915م) فهو باحث عراقي، من رجال الكهنوت، كان رئيس أساقفة الكلدان الكاثوليك في “سعرد”، له كتب منها: “الألفاظ الفارسية المعربة” (ط).

وكان يحسن مع العربية عدة لغات، يراجع “الأعلام” (1: 274).

  1. من هاله الشيء: أفزعه وبابه قال.
  2. من كلّ الرّجلُ والبعيرُ من المشي يكلُّ كلالاً وكلالة أيضًا أي أعيا.
  3. التحاجز: الامتناع والتحرز.
×