تأملات في جوهر الإيمان

“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (1)
22 نوفمبر, 2025
أمراض المجتمع وعلاجها (16)
11 ديسمبر, 2025
“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (1)
22 نوفمبر, 2025
أمراض المجتمع وعلاجها (16)
11 ديسمبر, 2025

تأملات في جوهر الإيمان

خليل أحمد الحسني الندوي
لكلِّ شيءٍ في هذا الوجود صورتُه وحقيقتُه، فالصورة قشرٌ، والحقيقة لُبٌّ. الصورة ظلٌّ زائل، أما الحقيقة فهي الأصلُ الثابت، والجوهر الباقي. ولكن من المؤسف أنَّ الإنسان في هذا الزمان فقد القدرة على التمييز بين الصورة والحقيقة؛ فاختلط عليه الأمر حتى ظنّ أن الصورة هي الحقيقة، وأن المظهر هو الجوهر، فتعلَّق بالقشور وترك اللباب، وعبد المظهر ونسيَ الجوهر.
إنَّ الصورة — على بهائها — خاليةٌ من الروح والحياة، أمّا الحقيقة فهي التي تنبض بالحيوية والقوة، وتُثمر الخير والنماء. فالصورة تُبهركَ منظراً، لكن الحقيقة تُدهشكَ أثراً. ولأجل هذا كانت الحقيقة هي الأساس الذي تُبنى عليه الأمم، وهي الحجر الذي تُقام عليه الحضارات.
انظروا إلى المتاحف: ترون فيها الأسود والذئاب والفِيَلة والنسور، تراها شاخصة بأنيابها ومخالبها، كأنها على أهبة الانقضاض، ولكنها في حقيقتها جثثٌ هامدة، محشوةٌ بالليف والقطن، لا حياة فيها ولا حركة. يركبها الأطفال، ويضربونها بأيديهم الصغيرة، لأنهم يعلمون أنها ليست إلا أشباحاً بلا روح، وصوراً بلا حقيقة. فهل يُعقل أن تحلّ الصورة محلّ الحقيقة؟! وهل تُغني القشرة عن اللبّ؟!
وكذلك نحن اليوم، قد تجردنا من حقيقة الإيمان، وبقينا على صورته، نحفظ ألفاظه ولا نحمل روحه، نتحدث باسمه ولا نجسده عملاً. صرنا كأولئك الأسود المحشوة بالقطن، ضخمة المنظر، خاوية الجوهر، ثم نرجو بعد ذلك نصرَ الله وتمكينه!
إن النصر لا يُعطى لمن حمل صورة الإيمان، بل لمن عاش حقيقته وتذوّق مرارتها وصبر على ابتلائها، فالله تعالى يقول:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
تدل هذه الآية الكريمة على أن النصر لا يأتي إلا بعد الابتلاء، وأن المحن طريق التمكين، وأن البلاء هو الميزان الذي يُقاس به صدق الإيمان. فبه يُعرف المؤمن من المنافق، والصادق من المدّعي. ولهذا قال الله عز وجل:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
فالحياة كلها ميدانُ اختبارٍ تُعرف فيه المعادن، وتُمحص به القلوب. أما من اكتفى بصورة الإيمان دون حقيقته، فمصيره الزوال عند أول عاصفة، كبيتٍ من ورقٍ في وجه الريح.
فلنفهم — أيها الإخوة — أن الإيمان ليس مظهراً يُتَزيَّن به، ولا شعاراً يُرفع في المناسبات، بل هو حقيقةٌ تُترجم في السلوك، وصبرٌ على البلاء، وثباتٌ عند الشدائد، وعملٌ يُجسِّد الصدق مع الله.
وما لم نتحلَّ بحقيقة الإيمان كما أمر الله، فلن تنفعنا صورته مهما عظمت، ولن نُغلبَ أعداءنا ونحن نُشبه الأسودَ المحشوةَ بالقطن، لا نملك من القوة إلا منظرها.
فلنُجدِّد إيماننا بالصدق والإخلاص، ولنلبس ثوب الحقيقة قبل أن نتزيَّن بثوب الصورة، فالله لا ينظر إلى صورنا، ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا. وحين نحيا بحقيقة الإيمان، لا بصورته، عندها فقط يأتينا نصر الله، قريباً كما وعد: “أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”.