أمراض المجتمع وعلاجها (14)
24 سبتمبر, 2025أسوة حسنة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام
25 سبتمبر, 2025اسمعي يا مصر (2/الأخيرة)
العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي
إن أوروبا قد شاخت، ونضجت كالفاكهة التي أدركت، وضعف الغصن عن حملها، فاستعدي يا مصر الإسلامية لتحلي محلها في الزعامة العالمية وقيادة الأمم، وما ذلك بعزيز ولا بمستحيل، إذا تم استعدادك الروحي والخلقي والمادي، وإذا كانت أوروبا قد احتفظت بالقيادة العالمية هذه المدة الطويلة، وليست عندها رسالة عامة للإنسانية، ولا دعوة مخلصة لأمم العالم، وعندها كل ما يضعف ثقة العالم بها من وطنية، وعنصرية، وتقديس للنسل الآري، وإدلال باللون الأبيض، ونزعة تجارية، واستعمار، فكيف لا يرضى العالم بقيادتك، وعندك الرسالة التي تضمن سعادة العالم كله، ودين لا يفرق بين الأوطان، والعناصر، والألوان؟.
احرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم! وصوني شبابهم، وشرفهم، ودينهم، وصحتهم من أن يعبث بها العابثون، أو يتجر بها المتجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لتروج بضاعتهم وتزدهر تجارتهم، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة، والصور العارية، والأدب المكشوف، فإنك يا مصر في محل الزعامة والقيادة للشرق الأوسط، وفي طريقك إلى الزعامة، والقيادة للعالم الإسلامي، ولا تأتي الزعامة والسيادة إلا بعد الاستقامة والثبات في مزالق الإنسان، والنجاح البارز في امتحان العفة، وطهارة الأخلاق، واذكري قصة يوسف التي مرت على أرضك، ووقعت بين سمعك وبصرك كيف ثبت في الامتحان، وكيف حافظ على دينه وعفته، فكانت نتيجة ذلك الثقة، والاعتماد، والسيادة، والملك، واقرئي إن شئتوَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[يوسف: 56].
بل ولا حياة ولا شرف إلا بالرجولة والأخلاق، فكيف وأنت في ميدان القتال وساحة الجهاد، فلا بد أن تحفظي وصية قائدك الكبير سيدنا عمرو بن العاص، وتذكري ما قال لخلفائه في أرضك: “واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوّف قلوبهم إليكم وإلى داركم”.
فكافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة أشد مما تكافحين وباء الكوليرا الذي يقضي على حياة بعض الأفراد، وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك، ويزلزل الإيمان، ويفسد الخلق، أشد مما تطاردين من ينشر الوباء، أو يسبب الأمراض، أو ينقل إلى أرضك المكروب، فلم نسمع أن الأمة العظيمة ماتت وبادت بسبب وباء أو مرض، وأن اليونان، اجتاحهم مرض من الأمراض، ولكننا قرأنا في التاريخ، وشهدت أنت أن هذه الأمم كانت كلها فريسة التفسخ الخلقي، والأمراض الاجتماعية، فاحذري يا مصر ـ صانك الله وحرسك ـ هذا المصير المؤلم.
إن العالم العربي قد أحلك يا مصر من نفسه محلاً رفيعاً، ووضع ثقته فيك، وفتح لك أذنيه، وعينيه، فاتقي الله يا مصر فيمن ائتمنك ووثق بك في نفسه وعقله! ولا تصدري إليه من أدبك ومطبوعاتك ما يرزؤه في إيمانه وأخلاقه وقوته المعنوية وروحه، كما لا ترضين ولا ترضى كرامتك ومروءتك أن تصدري إلى زبائنك من الدول والبلاد الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة، ولا تقبلين أن يصدرها إليك أحد، وصدقيني يا مصر العزيزة! أن هذه الروايات الخليعة، والأدب الماجن أفسد وأضر للأمة والحياة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة، إنك زعيمة للعالم العربي، فلا تغلبنك النزعة التجارية، ولا تغرنك المنافع المؤقتة، فلا يكون زعيماً، ولايكون عظيماً من يؤثر العاجل على الآجل، والمنفعة الفردية على المنفعة الاجتماعية، والأثرة على الإيثار.
إنك يا مصر من أغنى بلاد الله! ولست أعني بالغنى خصب الأرض، وكثرة الموارد، وإنك لغنية فيها من غير شك، ولكني أعني غناك في المواد الخامة، وهي الشعب الذي توفرت فيه المواهب والقوى، خصوصاً ما يسكن منه في أريافك، فهي المناجم التي لا تزال مدفونة، والمعادن التي لم تستخرج بعد، هذا الشعب قوي الإيمان، قوي الشخصية، قوي الجسم، فلو أنك أحسنت تعليمه، وتربيته، وأفدت من هذا الإيمان، ووضعته في محله لكان حارسك الأمين، وجنديك القوي، وثروتك العظيمة.
قد اختار الله لك يا مصر! قارة من أوسع القارات، وأكثرها مواد خاصة هي القارة الإفريقية، ولايزال جزء كبير منها على سذاجته، وفطرته. ولا تزال فيها أمم على الجاهلية الوثنية، وعلى الجهالة والضلالة، ولا تزال فيها أمم كاللوح الصافي يكتب الإنسان فيه ما يشاء، وهذه الأجزاء من القارة، وهذه الأمم خير حقل لجهودك وتربيتك، وخير أرض لزراعتك وغرسك، فأرسلي إليها دعاتك المبشرين، ورجالك المصلحين، وعلماءك المرشدين، وأبناءك المعلمين، يبلغونهم الدين، ويتلون عليهم آيات الله، ويعلمونهم الكتاب والحكمة، وبذلك تنقذين بإذن الله نفوساً كثيرة من النار، وتخرجينها من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وتكتسبين قلوباً نقية وأرواحاً فتية، وأجساماً قوية، ويكون ذلك خيراً لك من هذه الأمم والدول الغربية التي تخطبين ودها، وتحرصين على صداقتها، وهي لا تدوم على حال، بل تجري وتدور مع أغراضها المادية، ومصالحها السياسية، فيوماً هي معك، ويوماً مع أعدائك، وإذا كانت معك لم تكن بإخلاص وصدق، وإنما هي المطامع والمصالح، وما أضعف الصداقة التي تقوم على المطامع والأغراض!.
وأخيراً أريد أن أقول في أذنك يا مصر! إن لله في خلقه شؤوناً، وإنه أعظم غيرة من كل غيور، وإنه لا يعطي نعمة دينه إلا من يعظّمها، ويجلها، ويقدّرها حق قدرها، فإذا رأى منك استغناء عن الدين وما ينبئ عن احتقار لشأنه، واستصغار لأمره، وزهد في الإسلام، وانصرافاً عن خدمته، وتقصيراً في أداء رسالته، واعتزازاً لمبدأ غير الإسلام، وتشرفاً بغير محمد عليه الصلاة والسلام استغنى عنك، على مآثرك السباقة، وثروتك الضخمة، ومدنيتك الفخمة: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا الأحزاب: 62]، وجاء لخدمة الإسلام وقيادة الأمم الإسلامية بأمة لم تخطر منك على بال، تعتز بالدين وحده، وتتشرف برسالة الإسلام، وتتشبع بحب محمد عليه الصلاة والسلام، وتلتهب غيرة دينية، وحماسة إسلامية، وتجاهد في سبيل الله، ولا تخاف لومة لائم، وإن الله تعالى حذّر العرب الأولين، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام: 89].
وقال للمسلمين العرب: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
ولله جنود السماوات والأرض، وفي كنانة الإسلام سهام لم يرها أحد، ولا تخرج إلا في وقتها، ومن يدري فلعل شمس الإسلام تطلع من المشرق، وهذه أمم إسلامية فتية على سواحل المحيط الهندي، وفي جزره تتحفز للوثوب، تتهيأ لقيادة العالم الإسلامي، فاحتفظي يا مصر العربية بمكانتك ومجدك، ولا تأمني دورة الأيام، ولا تأمني مكر الله:فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].