جمعية الندويين من أهل غجرات تعقد المسابقة الكبري حول السيرة النبوية
3 فبراير, 2025السلالة البرهمنية الهندوسية وعنصريتها
20 مايو, 2025من سمرقند إلى دلهي: تكرار التاريخ في استهداف مؤسسات الوقف
الدكتور محمد سعود الأعظمي الندوي
تشهد الهند تحولات قانونية عميقة تلامس جوهر العلاقة بين الدولة والتعدد الديني والثقافي الذي لطالما شكّل سمة رئيسية لهويتها. ففي خطوة وُصفت بأنها “إصلاحية”، تم إدخال تعديلات جذرية على قانون الوقف لعام 1995، تحت اسم “قانون الإدارة الموحدة للوقف والتمكين والكفاءة والتنمية”. ورغم ما تحمله هذه التسمية من إيحاءات تنموية، فإن جوهر التعديلات يعكس مسارًا مقلقًا نحو السيطرة المركزية على المؤسسات الدينية، لاسيما الإسلامية منها، وإعادة هيكلتها بما يتماشى مع رؤية أيديولوجية قومية هندوسية تهمّش الأقليات الدينية.
الوقف الإسلامي: مؤسسة دينية مستهدفة
الوقف في الإسلام ليس مجرد ملكية مجمدة لأغراض خيرية، بل هو مؤسسة ذات عمق ديني وتاريخي واجتماعي، تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، تمويل التعليم، ورعاية المحتاجين. وهو مظهر من مظاهر “العبادة المستمرة”، ويُدار وفق نية الواقف ويخضع لأحكام الشريعة، ولا يجوز التصرف فيه إلا بما يحقق غايته الأصلية.
لكن التعديلات الجديدة تكشف عن جهل عميق بهذا المفهوم، كما أوضح الوزير الأسبق سلمان خورشيد، حيث اشترط القانون أن يكون الواقف مسلمًا مارس الشعائر لخمس سنوات، وهو شرط غريب يُقحم الممارسات الشخصية في إثبات الإيمان، خلافًا لما قررته الشريعة الإسلامية. كما ألغى القانون مفهوم “الوقف بالاستخدام” الذي يعترف بملكية المواقع التي استُخدمت قرونًا كمساجد أو مدارس حتى إن لم تكن مسجلة رسميًا، ما يهدد آلاف المؤسسات الوقفية بالضياع القانوني.
سلطة تنفيذية بلا ضوابط قضائية
من أخطر ما حملته التعديلات منح سلطات واسعة للمحافظ (Collector) لتحديد ملكية أراضي الوقف، وهو ما يُخضع مؤسسة دينية لسلطة تنفيذية لا تملك الشرعية الدينية أو القضائية، مما يُخل بمبدأ الفصل بين السلطات. وقد أظهرت محكمة دلهي العليا خطورة ذلك عندما أبطلت قرارًا حكوميًا اعتبر 123 موقعًا وقفيًا (بينها مساجد ومقابر) ممتلكات حكومية بناءً على مستندات ضعيفة.
تغيير وجهة الاستهداف نحو الكنيسة
لم يتوقف الهجوم عند الوقف الإسلامي، بل سرعان ما اتجه الإعلام المرتبط بالتيار القومي الهندوسي، مثل صحيفة Organizer، نحو الكنيسة الكاثوليكية، متسائلًا عن ملكيتها للأراضي بزعم امتلاكها أكثر من 7 كرور هكتار. ورغم غياب التوثيق لهذه الأرقام، فإنها تُستخدم لتهيئة الرأي العام نحو إخضاع ممتلكات الكنيسة للمنطق نفسه الذي طُبّق على الوقف. وهذا التوجه يستند إلى تعميم حكومي مهمل منذ عام 1965 بشأن تسجيل أملاك الأساقفة، في محاولة لإحيائه مجددًا.
دروس من سمرقند وبخارى
التاريخ يعيد نفسه. ففي سمرقند وبخارى، حين اجتاحت العلمانية السلطوية مناطق آسيا الوسطى، كان أول ما استُهدف هو الوقف. لم تكن الحجة يومها “التنمية”، بل “التحديث”، وتمثلت الخطوات في إلغاء الاستقلالية الوقفية، فرض الضرائب، وتعطيل موارد المدارس والمساجد، إلى أن جُففت ينابيع المعرفة الدينية، وقُطع الطريق أمام العلماء وطلبة العلم. فقدت المجتمعات حينها مصدر قوتها الروحي، وأُفرغ الدين من مؤسساته ومقومات استمراره.
أليس ما يحدث اليوم في الهند هو امتداد لتلك التجربة؟ أليست التعديلات القانونية نوعًا من تجفيف الينابيع لاختراق الهوية الإسلامية؟ المسألة ليست تغييرات بنود، بل تغييرات بنية، تجعل الوقف تابعًا لمنطق السوق والسلطة، بدلًا من أن يكون ضمير المجتمع وخزانته الروحية.
بين القانون والسياسة: تهديد جوهري للتعددية
إن الهجوم على الأوقاف والكنائس لا يُقرأ بمنأى عن التصورات القومية الساعية إلى خلق هوية دينية موحدة. فمع تهميش الأقليات، وتفتيت مؤسساتها، وسحب استقلاليتها، تفقد الهند توازنها الروحي والثقافي. كما أن غياب تمثيل سياسي موحد للمسلمين والمسيحيين، وضعف الخطاب الإعلامي للأقليات، يُسهّل اختراق هذه المكونات وتقسيمها، ليصبح المجال الديني مجرد ساحة إدارية تتحكم فيها الدولة.
المعركة من أجل الروح
القضية اليوم لا تتعلق بأملاك أو تسجيلات عقارية، بل بروح الهند التعددية، وبالمكانة المستقلة للدين في حياة الناس. الوقف ليس عقارًا، بل نية صادقة، ورسالة دائمة. والكنيسة ليست فقط أرضًا، بل حضنًا اجتماعيًا وتعليميًا وصحيًا. فإذا استُلبت هذه المؤسسات من معناها الروحي، ولم تُحمَ باستقلالها، فلن تبقى إلا قشرة فارغة تحكمها بيروقراطية جامدة.
الطريق إلى المواجهة
لمواجهة هذا المسار، تحتاج المؤسسات الوقفية والكنائس إلى تحرك قانوني موحد للطعن في التعديلات أمام المحكمة العليا، وتكثيف التنسيق الإعلامي لتوضيح أبعاد هذه القوانين، وحشد الدعم الدولي والحقوقي. كما أن إصلاح الإدارة الوقفية من الداخل، وضمان الشفافية، يُغلق أبواب الذرائع التي تُستخدم للهيمنة.
إنها ليست مجرد معركة قانونية، بل معركة على روح الهند على الحق في الحفاظ على استقلالية الدين في مواجهة سطوة الدولة، وعلى التعددية أمام نزعات التوحيد القسري.