رحمة للعالمين
4 نوفمبر, 2024دعاءٌ مهمٌّ جدًّا
4 نوفمبر, 2024أمراض المجتمع وعلاجها (4)
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
تعريب: سعد مبين الحق
- سوء الظن:
من الأمراض المهلكة التي تهدد المجتمع،”سوء الظن”، فقد قال الله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ” (الحجرات:15) وسوء الظن في الواقع وهم كاذب يسيطر على الشخص، فيجعل صاحبه لا يرى في أفعال الناس إلا عيبًا أو سيئة، ويشك في نواياهم، ولا ينظر إلى أفعالهم إلا بنظرة الشك والريبة، مما يؤدي إلى حدوث الحقد والكراهية والعداوة في النفوس، وتفكُّك عرى العلاقة بين القلوب.
من طبيعة الإنسان أنه يستعجل في إساءة الظن بالآخر،واتخاذ القرار، وإصدار الحكم، وتغلب عليه الأفكار السلبية، يصعب عليه في كثير من الأحيان أن يحسن الظن بالآخرين، لذلك أمر الله عز وجل: ” اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ “، وإن حسن الظن، حتى بالشخص الذي قد يكون سيئًا، لا يضرُّ، بينما يمكن أن يضرَّ سوءُ الظن ضررًا كبيرًا وتكون له آثار خطيرة، فمن الحكمة أن يحسن الإنسانُ الظن بمن لا يعرفه تمام المعرفة، ما لم تظهر له أدلة قوية تستدعي العكس، وإذا أحسن المرءُ الظن بشخص سيء، فلن يُحاسب على ذلك يوم القيامة، ولكن إذا أساء الظن بشخص صالح سيحاسب عند الله حسابًا، ومع ذلك، فإن حسن الظن لا يعني أن تسارع إلى التعامل مع الآخرين بدون الاطلاع على عاداتهم ومعاملاتهم، لكي لا تنخدع، لأنه يخشى أن يجرَّ التعاملُ على أساس حسن الظن بدون تجربة، إلى الانخداع.
وإن الخداع من أسوأ الذنوب، وإن الانخداع أيضًا يتنافى مع الفراسة الإيمانية، كما جاء في الحديث النبوي: ” لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”. (صحيح البخاري: باب لا يلدغ المؤمن من جحر:6133) يعني ذلك أنه إذا انخدع المؤمن مرة واحدة، لكنه لا يلدغ مرة ثانية، لذلك يجب في تعلُّم الأمور الدينية من شخص، التأكُّد والتثبُّت من صحة المصدر وصدقه وأمانته، كما كان يقال في القرون الأولى: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”. (مقدمة الإمام مسلم: باب في أن الإسناد من الدين…: 26)
عند التعامل مع شخص ما، سواء في أمور دنيوية أو دينية، فإن التسرُّع في الوثوق به دون التحقُّق والتأكُّد قد يتعارض مع طبيعة الدين، وقد يؤدي إلى نتائج سلبية وأضرار بالغة، فمن المهم أن نحسن الظن بالناس عمومًا، ولكن في المعاملات أو أخذ العلم،وتلقِّي الدين، يجب أن نتأكد جيدًا قبل إبرام أي صفقة أو تقديم شهادة أمام الآخرين، حتى لا نقع في فخ الخداع.
ويدل على ذلك ما رواه ابن كثير في الإرشاد: ” شهد عند عمر رجل، فقال له عمر: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه”. (كنز العمال: تزكية الشهود: 17798)
يجب أن ندرك أن حسن الظن بشخص ما، والتعامل معه بناءً على هذا الظن الحسن هما أمران مختلفان، فقد أُمرنا بإحسان الظن بالناس حتى يظهر خلاف ذلك بشكل يقيني كما ورد في حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حسن الظن من حسن العبادة”. (سنن أبي داؤد: كتاب الأدب، باب في حسن الظن: ٤٩٩٥)، ولكن المعاملات معهم دون التحقيق يُخْشَى أن تسبب خسائر كبيرة،وتؤدي إلى نتائج سلبية.
إن سوء الظن بغير حق يعود إلى صاحبه بويل، وقد وردت في ذلك أحاديث نبوية، فإن سوء الظن قد يحرم الإنسان من الكثير من خيرات الدنيا؛ فإذا رأى عالمًا على أنه جاهل فإنه سيُحرم من علمه، وإذا ظن بشخصٍ قادرٍ على إرشاده إلى الطريق الصحيح، أنه مضل، فسيُحرم من الاستفادة من توجيهاته حتى من يكون حريصًا على مصلحته، سيبعده عنه سوءُ الظن، ويحرمه من فوائده.
هذه صور مختلفة لسوء الظن، وهي التي تضر بصاحبها نفسه، ولكن صاحب سوء الظن –مهما كان نوعه–في أغلب الأحيان يسعى للانتقام، ويتخذ خطوات غير لائقة تُعَرِّض المجتمع كله لأضرارها،وأحيانًا تقع حوادث القتل والاعتداء،وعادة ما تنشأ هذه المواقف من سوء الفهم، فالإنسان يسمع شيئًا عن شخص ما أو يرى شيئًا، فيبني على ذلك رأيه، ثم تتفاقم الأمور وتنتهي إلى أسوأ مرحلة. لذلك حُذّر من سوء الظن بشدة، وحثّ الناس على البحث عن الجوانب الإيجابية في الآخرين. قال ابن عبد البر في كتاب “بهجة المجالس”: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجا”. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الظن في عشرات الأحاديث، منها قوله::إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث”. (صحيح البخاري: كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه:5143)
وعن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول::ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيرًا”. (سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب حرمة دم المؤمن وماله:4067)
إذا وقعت في سوء الظن بشخص ما، عالج بما ورد في الحديث النبوي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة، الحسد والظن والطيرة، ألا أنبئكم بالمخرج منها إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تتبع، وإذا تطيرت فامض”. (جامع الأحاديث للسيوطي:45013) وفي حديث آخر رواه البخاري: “إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تتكلم”. (صحيح البخاري: كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان: 2528)
وعندما يبدأ شخص في العمل بناءً على الظنون أو يتحدث عنها، وتترسخ في ذهنه، يكون مؤاخذًا عليها، لذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على سرعة التخلص منها بمجرد ظهورها.
وقد تفشى هذا الداء الدوي بين المسلمين اليوم، نبحث عن أخطاء الآخرين، بينما نغض أبصارنا عما فينا من عيوب ومساوئ وخيمة، ينطبق علينا ما يقال: “إننا لا نرى العيوب الواضحة في أنفسنا، بينما نلاحظ أدق العيوب في الآخرين”.
وعن عمر رضي الله أن رجلا شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العَنْهُ، ما أكثر ما يُؤتَى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحبُّ الله ورسوله”. (صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن…:6780)
رغم ارتكابه الكبائر، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حسنة له، وعلَّمَنا أنه عندما يُذكر أحد بمثل ذلك في المجالس،من الأفضل أن يذكر بمحاسنه، فمن الرجاء أن تُقبل حسنة واحدة، ويُغَطَّي بتلك الحسنة على كبائره.
وسوء الظن في أغلب الأحيان يحدث في صاحبه الشعور بالاستعلاء والتفوُّق والكبر، وهو من أبغض الصفات وأشدِّها كراهة عند الله، وإن كان لابد من النكير على أمر، فيجب القيام بذلك دون استكبار، لأن الله غني حميد، ويمكن أن تنقلب الأمور رأسًا على عقب.
فقد ذكر أبو داؤد في سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “كان رجلان في بني إسرائيل متآخين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك – أو لا يدخلك الله الجنة! – فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: كنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار”. (باب في النهي عن البغي:4901)
وينبغي للمرء أن يتجنب التصرفات التي قد تدفع الآخرين إلى إساءة الظن به، فقد جاء في الحديث الشريف: «اتقوا مواضع التهم». (إحياء علوم الدين:3/31)
ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية عدم إعطاء الآخرين فرصة لإساءة الظن به، كما يجب على الشخص الذي قد يثير سوء الظن لدى الآخرين أن يسعى لإزالته حتى لا يقعوا في الفتنة.
ولقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من خلال حادثة حدثت أثناء اعتكافه، عن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني – وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد – فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي::على رِسْلِكُما، إنها صفية بنت حيي”، فقالا: “سبحان الله، يا رسول الله”، فقال: “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا أو قال: شيئًا”. (صحيح مسلم: كتاب السلام، باب أن يستحب لمن…:5807).