حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (5)

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (4)
18 يوليو, 2024

حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (5)

أ.د. وليد إبراهيم القصاب

الأسلوب والموقف الاجتماعيّ:

إن هذه الاختلافات اللغوية، التي تدرس عادة في فرع من علم اللغة يعرف بعلم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics – والتي سقنا نماذج منها – على سبيل التمثيل لا الحصر – تشترك في تكوين ما يسمى في (علم الأسلوب) الحديث بالموقف أو المقام، وهو ما يحاول القائل أن يراعيه فيما يختاره من طرق التعبير، وفي استخدامه للغة. وهكذا يبدو الأسلوب ثمرة من ثمرات هذا الاهتمام بالموقف،ومراعاته، وأخذه في الاعتبار.

فالفرد القائل يريد أن يوصل إلى شخص آخر، أو إلى مجموعة من الناس معنى ما، وهو – إن كان ينشئ عملاً فنيا – يتوخى إلى جانب التوصيل التأثير في المتلقي، وهو – من أجل تحقيق واحد من هذين الغرضين أو كليهما معاً – يراعي مجموعة من الاعتبارات، على رأسها تلك الفروق اللغوية الموجودة بين الأفراد والجماعات، فيدخل في حسابه عند استعماله للغة على أسلوب معين دلالات كثيرة: دلالات تتمثل في طريقة النطق، واختيار الكلمات والتراكيب، ومراعاة مصطلحات معينة.

وهي جميعها دلالات يأنس إليها السامعون، وتلقى عندهم قبولاً، ويحقق القائل بواسطتها غرضي التوصيل والتأثير اللذين ينشدهما على أتم وجه.

ومن الواضح أن هذا الموقف الذي نتحدث عته يعنى بشيئين أثنين: بالمتلقي ونوعه ودرجته الاجتماعية، وبالحالة أو الظرف الذي يعد له الأسلوب، أو يقال فيه الكلام، وهما بطبيعة الحال جانبان متداخلان أو هما وجهان لقطعة نقدية واحدة.

وتلتقي البلاغة العربية – في وضعها الأسلوب في إطاره من الملابسات الكثيرة التي تؤثر في تشكيله، ومنها المواقف الاجتماعية- مع الأسلوبية المعاصرة، ومع ” التداولية” وهي فرع من علم العلامات ” السيميولوجيا ” التي تعنى – كالبلاغة- ” بالشروط اللازمة لكي تكون الأقوال اللغوية مقبولة وناجحة وملائمة في الموقف التواصليّ الذي يتحدّث فيه المتكلّم..تعنى بالشروط والقواعد اللازمة للملاءمة بين أفعال القول ومقتضيات المواقف الخاصّة به، أي للعلاقة بين النصّ والسياق..”(1).

إن مفهوم ” التداولية” يغطّي ما يسمّى في البلاغة العربية ” مقتضى الحال ” التي أنتجت مقولة: ” لكلّ مقام مقال”.(2).

حضور المتلقي في البلاغة العربية:

قفز الاهتمام بالمتلقي بقوة إلى واجهة الدراسات الأدبية والنقدية بعد انحسار البنيوية، وبدا للباحثين واضحًا أنّ الأسلوب لا يشكّل حضوره الفاعل إلا من خلال المتلقي الذي يحكم عليه،ويميز تأثيره، إذ هو المعني به أصلاً؛ فهو الذي يتلقى الرسالة التي هي إحدى عناصر الاتصال التي أشارت إليها البلاغة العربية واللسانيات الحديثة.

وما يسمى الآن في الدراسات الأسلوبية الحديثة بـ” أسلوبية التلقي ” هو أسّ البلاغة العربية التراثية التي كان في أصل تعريفها أنها “مراعاة مقتضى الحال ” والمخاطب أو المتلقي هو أهم عناصر الحال التي تراعى.

وقد حظي المتلقي في التراث البلاغي والنقديّ عند العرب بمكانة فاقت مكانة المؤلف نفسه؛ ذلك أن الأدب العربيّ: شعرًا ونثرًا، كان دائمًا ملتصقًا بالجمهور، مجنّدًا لخدمة همومه ومشكلاته،لم يشهد تراثنا الأدبيّ جفوة بينه وبين المتلقي كما حصل مع قدوم موجات الحداثة التي حملت معها التشويش والفوضى والغموض، فكانت ” نظرية التلقي ” أو استجابة القارئ ” لونًا من ألوان تملّق هذا المتلقي، وردّ الاعتبار إليه، بعد أن أهملته بعض الاتجاهات الحداثية الغربية، وجعلت السلطة الأدبية كلّها للمؤلف،أو للنصّ وحدهما. وحسب المنبهرون بكلّ ما يأتي من الغرب أن هذا الاهتمام بالمتلقي هو فتح جديد في الفكر الإنسانيّ وأنّ أحدًا لم يعرفه من قبلهم.

إنّ المخاطب/ المتلقي/ حاضر في التراث الأدبيّ العربيّ حضورًا طاغيًا عند كلّ من المبدع والناقد معًا.

يقول ابن رشيق داعيًا الشاعر إلى مراعاة المخاطب: ” غاية الشاعر معرفة أغراض المخاطب كائنا من كان؛ ليدخل إليه من بابه، ويداخله في ثيابه ؛ فذلك سرّ صناعة الشعر ومغزاه الذي به تفاوت الناس، وبه تفاضلوا..”(3).

وقال الجاحظ مخاطبًا الكاتب: ” إذا أعطيت كلّ مقام حقّه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقّ الكلام؛ فلا تهتمّ لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنه لا يرضيهما شيء..”(4).

إنّ المتلقي هو جزء من المقام كما سبق أن أشرنا،وقاعدة ” لكلّ مقام مقال” التي تعد تعريفا للبلاغة تجعل المتلقي أهم ركن في هذا المقام.

يقول تمام حسان:” حين قال البلاغيون ” لكلّ مقام مقال، لكلّ كلمة مع صاحبها مقام” وقعوا على عبارتين من جوامع الكلِم، تصدقان على دراسة المعنى في كلّ اللغات لا في اللغة العربية الفصحى فقط، وتصلحان للتطبيق في إطار كلّ الثقافات على حدّ سواء. ولم يكن ” مالينوفسكي”وهو يصوغ مصطلحه الشهير”Context of situation” يعلم أنه مسبوق إلى مفهوم هذا المصطلح بألف سنة أو ما فوقها. إنّ الذين عرفوا هذا المفهوم قبله، وهم العرب، سجّلوه في كتبهم تحت اصطلاح ” المقام” ولكن كتبهم لم تجد من الدعاية على المستوى العالمي ما وجده اصطلاح ” مالينوفسكي”من تلك الدعاية؛ بسبب انتشار نفوذ العالم الغربيّ في كلّ الاتجاهات، وبراعة الدعاية الغربية الدائبة..”(5).

وقد أخذت عناية البلاغة العربية بالمتلقي عدّة أشكال، لا يتسع بحث موجز مثل هذا أن يقف عليها جميعها، ولذلك سنشير باختصار إلى أبرز الملامح العامّة التي تشكّل وجه هذه القضية:

راعى الأسلوب البلاغي جوانب كثيرة تتعلّق بالمخاطب؛ فاستحضره في التقديم والتأخير، والذكر والحذف،والتعريف والتنكير، والإيجاز والإطناب، وفي ضروب الخبر المختلفة، وفي صياغة الصورة الأدبية، وفي وضوح الكلام وشفافيته، وفي بناء القصيدة، وفي غير ذلك من أساليب صياغة الكلام الكثيرة. وجميع ذلك من أجل إيصال الرسالة إليه معبّرة مؤثرة، تتفق مع أحواله المختلفة: نفسيًا، وثقافيًا، واجتماعيًا، وطبقيًا، وغير ذلك.

  1. الجانب النفسيّ :

يتشكّل الأسلوب البلاغيّ في أحيان غير قليلة مراعيًا الجانب النفسيّ،أو الحالة النفسية للمخاطب، سواء أكان هذا المخاطب حقيقيًا، له وجود ماديّ ملموس،أم كان مخاطبًا متخيلا أو مفترضًا، يشبه- إلى حدّ ما-ما  يسمى عند أصحاب نظرية التلقي “القارئ الضمني” وهو قارئ يقول عنه آيزر:” تحيل فكرة القارئ الضمنيّ إلى بنية نصّية لمثولية المتلقي، وإنّ المقصود بهذا هو شكل يجب أن يكون متحققا. فالقارئ الضمنيّ إنما هو مفهوم يضع القارئ أمام النصّ ، وذلك في حدود التأثيرات النصّية  التي يصبح الفهم إزاءها فعلا من الأفعال ..”(6).

ومن أمثلة مراعاة حالة المخاطب، وهي كثيرة:

  • حالات الخبر: فالخبر ابتدائي، أو طلبيّ، أو إنكاريّ . وأساليب الخبر هذه مراعى فيها حالة المخاطب النفسية، وما يعتريه من يقين،أو تردد، أو شك، أو إنكار وجحد، أو ما شابه ذلك.

قال البلاغيون : “إنّ كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر،والتردد فيه؛ استغنى عن مؤكدات الحكم، كقولك : جاء زيدٌ ، وعمرو ذاهبٌ، فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليًا . وإن كان متصوّر الطرفين، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبًا له ؛ حسُن تقويته بمؤكّد، كقولك: لزيدٌ عارفٌ ، أو: إنّ زيدا عارفٌ . وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار، فتقول : إني صادقٌ، لمن ينكر صدقك  ولا يبالغ في إنكاره، وإني لصادقٌ ، لمن كان يبالغُ في إنكاره..”(7).

وتؤخذ هذه الحالة النفسية للمخاطب في الحسبان حتى عند كسر هذه القاعدة، والخروج بالخبر إلى ما سمّاه البلاغيون “خروج الكلام على خلاف الظاهر” فلا يساق الخبر للمتلقي بحسب الحالات السابقة  ، بل يُخرَج عليها لاعتبارات نفسية كذلك؛ حيث “ينزّل غيرُ السائل منزلة السائل ، إذا قدّم إليه ما يلوّح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب ..”(8).

  • ومن هذه المراعاة النفسية لحالة المخاطب ما بتعلّق ببعض أساليب القصر؛ إذ هو – بالنظر إلى هذه الحالة- ثلاثة أنواع، هي : قصر إفراد، وقصر تعيين، وقصر قلب.وكلّ نوع من هذه الأنواع يوجّه إلى مخاطب – حقيقيّ ، أو متوهم- ذي حالة نفسية معينة(9).

المراجع:

(1). – بلاغة الخطاب وعلم النصّ: صلاح فضل: ص25 ” سلسلة عالم المعرفة، العدد: 164، الكويت:1413/1992

(2). – السابق: ص 26

(3). – العمدة: ص 230 ” شرح صلاح الدين الهوّاري، مكتبة دار الحياة،مصر: 1996م

(4). – البيان والتبيين: 1/116

(5). – اللغة العربية معناها ومبناها: ص272 ” عالم الكتب،القاهرة: 1998

(6).-نظريات التلقي، لجانل ويدوفان، ترجمة منذرعياشي، ص 89 “مجلة البيان الكويتية، العدد، ” وانظر كذلك ” نظريات التلقي” فرانكشويرويجن، ص 98 “مجلة علامات، مارس : ا998”.

(7). – الإيضاح : ص92

(8). – السابق : ص 94

(9).-  انظر تفصيل ذلك في الإيضاح: ص214

×