المصالح هي التي تقرر المواقف
23 ديسمبر, 2021الفرجة بعد الكربة
20 فبراير, 2022الأرض المقدسة والمحافظة على حرمتها
جعفر مسعود الحسني الندوي
في كل يوم يرد إلينا من الأنباء عن بلادنا الحبيبة، ما يثير القلق، ويزيد الهم، ويكثر الحزن، حاولنا مرارًا -لحبِّنا لها وهيامنا بها، وتوجُّهنا إليها للحج والعمرة- أن نرفضها ونكذبها،ونعدها من الشائعات التي تُشَاع، والأكاذيب التي تُختلق، والمؤامرات التي تُحاك ضد هذه الدولة التي تحتل مكانة لا تحتلها دولة أخرى، لكونها مهبط الوحي، ومثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتضانها أقدس بقعة من بقاع العالم، وأحبها إلى النفوس وأكثرها زيارة وأمنًا وسلامة، مما يجعل بعض الدول الحاقدة عليها والمعادية لها أن لا تألو جهدًا في تعكير جوّها، وتشويه سمعتها،وإثارة شعبها،وإلصاق التهم بها،والإخلال بنظامها،والدعاية الكاذبة ضدها، ونشر ما يمسُّ بكرامتها، وينال من قداستها، كما شاهدنا في الأيام الماضية، ولاسيما أيام الثورة الخمينية الشيعية التي تمَّ تصديرها باسم الثورة الإسلامية،وغرى بها كثير من السفهاء والحمقاء، فرحَّبوا بها وصفقوا لها دون أن ينظروا إلى ما وراءها من النوايا والغايات.
لكن الأنباء التي تصل إلينا في هذه الأيام من مصادر موثوق بها، وبوضوح وصراحة عن التحوّلات المدهشة،والخطوات المقلقة التي لا يمكن أن يتصورها أحد ممن يدين بالإسلام، ويؤمن بشريعته في هذه البلاد المقدسة، تدفع كلَّ محبّ لها إلى أن يبدي قلقه عليها،وكراهيته لها، ويقف منها موقف المستنكر،ويدينها أشد الإدانة؛ لأن مركز جزيرة العرب في العالم الإسلامي كمركز القلب في الجسد الإنساني، وإذا صلح المركز صلح العالم كله،وإذا فسد فسد العالم كله،كما جاء في الحديث النبوي عن دور القلب في صلاح الجسد: ” ألا إن في الجسد مضغة،إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.
لكن كيف يكون هذا الاستنكار وكيف تكون هذه الإدانة من رجل لا يملك شيئًا من أدوات التغيير، ولا من أدوات التأثير، ولا من أدوات الترهيب، إلا الكلمة التي تنفذ إلى القلوب وتؤثر على النفوس،وتحثّ على تغيير الموقف،وينال بها قائلها ما يريد من تغيير الاتجاهات، وإعادة النظر فيما تتخذ من الإجراءات لفرض الحظر على العمل الإسلامي، وتقام من البرامج المنافية للشرع الإسلامي والثقافة الإسلامية، وتحتاج هذه الكلمة إلى أسلوب بليغ مؤثر يجمع بين الحكمة والجرأة، وهذا ما نراه في رسائل كتبها سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ووجهها إلى الملوك والرؤساء وقادة الدول العربية والإسلامية ونصحهم فيها،فنقدم هنا مقتطفات من هذه الرسائل التي لفت فيها أنظار ملوك المملكة العربية السعودية إلى بعض الأمور التي تنافي قداسة هذه الأماكن المقدسة،وهو خير نموذج لتوجيه النصح إلى من بيده زمام الأمور، يقول في رسالة له وجهها إلى سمو الأمير فيصل رحمه الله،وهو يشير إلى الاتجاه المعارض لروح الدين بعد ما أشاد بخدماته:
“إنني كفرد يدين لهذه البلاد في دينه وعقله وثقافته،أستحث هممكم ومواهبكم وما أكرمكم الله به من جاه ومنصب ونفوذ لمحاربة هذا الاتجاه الخطير إذا وجد في زاوية من الزوايا الخاصة والعامة، وتجنيد جميع قواكم في سبيل حفظ شخصية هذه البلاد الإسلامية العربية،وتوجيه التفكير والرأي العام والصحافة والإذاعة والأدب والمعارف إلى ما يغرس في نفوس الشعب وشبابه وجيله الناشئ، الإيمان والحماس الديني، والغيرة الإسلامية، وحب الأخلاق والفضيلة، وكراهة الإثم والفسوق والفحشاء، ويرسي فيهم القيم الإسلامية ويجعلهم جديرين بحمل المسئولية الكريمة العظيمة التي يرشحهم لها الإسلام وترشحهم لها هذه البلاد “.
ويقول في رسالة أخرى وجهها إلى الملك فهد بن عبد العزيز وأبدى مخاوفه على ما شاهده خلال زيارته للمملكة العربية السعودية:
” إن أخوف ما نخاف على هذه البلاد وعلى العالم الإسلامي هو أن تتجرد هذ البلاد المقدسة والشعب العربي السعودي الكريم وخاصة جيران البيت الحرام والمسجد النبوي عن شخصيتهم المثالية ومركزهم القيادي؛ بل عن شخصيتهم الإسلامية والتنكُّر لها والاستنكاف عنها،وأن تنشأ بينهم وبين الحرم وما قام له ويقوم، فجوة واسعة عميقة لا تردم، ولا يقوم عليها جسر فيعيش كل واحد منها في عزلة عن صاحبه، وقد تكون صلة المسلمين في بلاد العجم أقوى وأعمق من صلة الذين يعيشون في رحاب الحرم وظلال الكعبة،وهو خطر قد ظهرت طلائعه بتأثير طرق التربية والإعلام،وتدفُّق الثروة، وتوفُّر وسائل الترفيه والتسلية توفُّرًا لا يوجد نظيره في بلد إسلامي آخر، وفقدان القدوة الصالحة والنماذج العملية في القناعة والتماسك وسمو النظر، وبسبب ضعف الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأثير المدنية الغربية وقيمها ومثلها من غير نقد وتمحيص، وبتأثير الصحف والمجلات الخليعة والروايات المثيرة للغرائز التي تنصب على هذه المملكة من زمن طويل. وقد قضى الله أن تكون هذه الجزيرة حرما للإسلام وحمى له، وأوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه فيما أوصى به في آخر عهده بالدنيا فقال: “لا يجتمع بجزيرة العرب دينان” وقال:” أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب”. وعدم اجتماع الدينين وإخراج الهيود والنصارى من هذه الجزيرة الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، يحمل أبعادًا ومعانى أوسع مما يبدو ظاهرًا من اللفظ، فهو يشمل إبعاد أثرهم وتغلغل حضارتهم وقيمهم في هذه الجزيرة، وخطر نشوء جيل ليس بينه وبين الحرم ومسجد الرسول ورسالتهما تجاوب وانسجام وتفاهم واتفاق؛ بل بينهما بالعكس تباعد وتجاف،خطر لا يوجد له نظير في التاريخ الماضي”.
وهذا الخطر هو نفس الخطر الذي نشاهده اليوم في الأرض المقدسة من خلال إقامة برامج ترفيهية منافية للشريعة والثقافة الإسلامية، وقد لفت فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء في رسالته التي وجهها في 16/ 12/ 2021م إلى ولي عهد المملكة فيقول :
“بدأ يحدث في الآونة الأخيرة ما يثير القلق والمخاوف، ومن ذلك إقامة برامج ترفيهية مغايرة لعظمة الحرمين الشريفين، ومنافية لما ورثناها من تعاليم الدين الحنيف،ويضاف إلى ذلك تعميم أصدرته وزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة عن عمل الدعوة والتبليغ الذي انتشر اليوم في أقطار العالم، ويقوم فيه أصحابه بتلقين كلمة التوحيد، والتأكيد على الصلاة، وربط المسلمين بالمساجد، والابتعاد عن البدع والمحرمات، وكان قد أسس جماعة الدعوة والتبليغ فضيلة الشيخ الداعية محمد إلياس الكاندهلوي رحمه الله ، وقد رأينا قبل خمسين سنة عندما التقى سماحة شيخنا أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقًا) وأفاده بما تقوم به هذه الجماعة من أعمال دينية دعوية إصلاحية جليلة، فأبدى سماحة الشيخ بن باز عدم الحرج من هذا العمل الدعوي في المملكة العربية السعودية، كما أن جميع أهل العلم العظماء في الهند وبلاد أخرى يرون القيام بهذا العمل صالحًا ومفيدًا.
ومن هذا المنطلق نناشد سموكم وتناشد كبرى المنظمات الدينية والإسلامية في الهند بأن لا تسمحوا في بلاد الحرمين الشريفين بما يؤدي إلى تشويه السمعة الطيبة للمملكة العربية العزيزة، وإلى تقوية الأفكار والأعمال المضادة للشريعة الإسلامية الغراء”.
فنرجو من المسئولين عن الحكم في بلاد الحرمين الشريفين أن يعيدوا النظر في الخطوات التي تثير قلق كل مسلم في كل بلد، ولا تليق بقداسة هذه الأماكن التي أشرقت منها شمس الإسلام وانتشرت أشعتها في كل بقعة من بقاع العالم .
فالحذر من اتخاذ إجراءات تتنافى مع مركز هذه الجزيرة التي ولاكم الله أمرها واستخلفكم فيها، فإن اتخاذ هذه الإجراءات المغايرة للشريعة الإسلامية في هذه الجزيرة التي أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجريدها للإسلام والمسلمين وعقيدة التوحيد الخالصة وعبادة الله وحده التي جاء بها الإسلام، لا يقبله الشرع ولا يقبله العقل.