يجب أن يمثل البلد الأمين الحياة الإسلامية

تصريحات أحد كبار الوزراء تثير ضجة في أوساط النساء
8 يونيو, 2021
شعائر الله تعالى وتعظيمها (7)
26 يوليو, 2021

يجب أن يمثل البلد الأمين الحياة الإسلامية

لما كان الحج عرضة سنوية للملة، يلتقي فيها المسلمون على صعيد واحد من العقيدة والعاطفة والغاية، في جو ديني رباني، وفي محيط روحي إيماني، يستمدون منه قوة جديدة وروحاً جديدة، ويُصححون ما وقع في عقيدتهم من انحراف، وفي عاداتهم وشعاراتهم من فساد، وما اعتراهم من زيغ أو وهن بتأثير الحضارات والفلسفات العجمية الأجنبية، وتقليد الشعوب والأمم التي تجاورهم، أو يعيشون فيها، ويستطيعون أن يردوا كل شيء إلى أصله، وأن يستقوا الدين من منابعه الصافية الأصيلة: وحب بحكم العقل والمنطق، وبحكم روح الإسلام وحكمة الحج، وأن يظل البلد الأمين الذي يقع فيه الحج، ويدور حوله، أميناً للحياة الإسلامية الصافية الأصيلة، يصور الحياة الإسلامية بجميع جوانبها ومزاياها ومظاهرها، حتى يلمسها ويتذوقها كل وارد إليه مهما قصرت إقامته وقلت معرفته، ولأن الله قد قضى أن يكون هذا البلد مركز الحج إلى آخر الزمان، ومثابة للمسلمين من جميع أنحاء العالم في كل سنة، يفدون إليه، وهم مؤمنون بحق بأنهم يقصدون بلداً هو معدن الطهر، ومولد الدين، وعاصمة الإسلام الروحية، وكل ما يشاهد ويسمع في جوانبه هو حجة للمسلم الغريب الذي يعيش بعيداً عن مهد الإسلام، وليس بعد عمل أهل مكة والمدينة حجة عند عامة المسلمين”وما وراء عبادان قرية”.

وهذه الطبيعة البشرية التي لا نستطيع أن نتغلب عليها بمنطق أو دليل، أو خطابة أو بلاغة، وهو الاحتجاج بعمل أهل المركز زعيم لدين أو حضارة، وهو العرف الذي جرى في مجال اللغة والآداب، والحضارة والفقه، فكانت لغة قريش ثم لغة البادية العربية، هي الحجة في اللغة العربية، ومناهج كلامها ولهجاتها، وكان عمل أهل المدينة حجة في مذهب كبير من المذاهب الفقهية الإسلامية، وظل عمل أهل قرطبة حجة عند كثير من فقهاء المغرب عندما كانت في أوجها العلمي الثقافي، وكانت مجمع العلماء والقضاة، وتحج الناس قديماً وحديثاً بعادات عاصمة البلاد ومركزها الحضاري، وتنافس الناس في تقليدها، ورأوا فيها المثل الكامل، والقدوة في الحضارة والأناقة والظرف، ودعاة الإسلام وزعماء الإصلاح يلقون صعوبة ومحنة، إذا احتج الحجاج بما قد يشاهدونه ويسمعونه في مركز الإسلام ومهبط الوحي، مما لا يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية أو آدابها، ويصعب إزالتهم عن ذلك.

وجانب أدق من هذا، وهو أن يبقى هذا البلد الأمين ـ على مر العصور والأجيال، ورغم تطورات المدنية ومرافق الحياة في العالم ـ محافظاً على شيء من البساطة والطبيعة، وعلى شيء من التقشف، ويتذكر فيه الوافدون من أنحاء العالم، الجو الذي كان المسلمون الأولون يقضون فيه مناسكهم، ويشعرون بشعورهم، أو قريب من شعورهم، ويشعرون بانتقال من عالم إلى عالم، ومن جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة، فإن هذا الشعور يحدث في النفوس تخلياً عن الماضي، واستعداداً لتلقى شيء جديد، وفرحة روحية لا يشعرون بها في مكانهم، أما إذا بقي البيت وحده، والحرم وحده على قدمهما، وتغير كل شيء حولهما، وأصبح البلد الأمين وما جاوره من البقاع قطعة من أوربا أو أمريكا، وحلت المدنية الغربية بخيراتها وشرورها، وبأصولها وفضولها، وأصبح الحاج الذي وصفه لسان الشرع” بالشعث التفل” يتقلب في أعطاف المدنية والنعومة، وينتقل من راحة إلى راحة، ومن تنعم إلى تنعم، ومن حديث إلى حديث، فإنه لا يشعر بشيء جديد قوي يحدث في مشاهره انقلاباً، ويشحمه شحنا روحياً.

ولذلك اعتبر الحج صنو الجهاد، وقد روى البخاري عن عائشة مرفوعاً:”أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور” وعنها قالت:”قلت يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أ فلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور”، وكان عمر رضي الله عنه يقول:”شدوا الرحال في الحج، فإنه أحد الجهادين” وإذا تطورت مكة تطوراً جذريا، واقتبست من الحضارة الغربية جميع مرافقها ووسائلها، وتوفرت للحج جميع أسباب الراحة والتنعم التي لا توجد إلا في العواصم الغربية الكبرى، شعر الحجاج بشيء من الفراغ الروحي، وبشيء من الجفاف، وبانحطاط ملموس في فوائد الحج، وآثاره في النفس والحياة.

العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني لندوي

×