عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (6)
9 يناير, 2021شعائر الله تعالى وتعظيمها
9 يناير, 2021حبُّ الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي للإنسانية ومنهجه في إصلاح المجتمع
أنشأ سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي-رحمه الله تعالى- لحبِّه للإنسانية حركة رسالة الإنسانية التي كانت تهدف إلى إصلاح المجتمع الإنساني بغض النظر عن الطبقات والأديان في عام 1974م بحملة شعبية لإيقاظ الضمير الإنساني إثر حوادث العنف، والاستغلال، وفشو الرشوة في الأوساط الرسمية، وقتل الزوجات، وقد عبر بعض القادة من المسلمين عن مخاوفهم بهذه الحركة بأنها تؤدي إلى وحدة الأديان، أو أنها تحول عن عمل الدعوة إلى الإسلام، والواقع أن هذه الحركة كانت مجهوداً لتقويم سلوك الإنسان، وبث المثل الخلقية في المجتمع البشري التي تتفق عليها جميع الأديان، وقد اقتضت ظروف المعيشة التي غزتها المادية الرعناء، وحب المال، وحب الجاه، والمصلحة مثل هذه الحركة، وهي حاجة العصر، لذلك نالت هذه الحركة القبول من سائر الأديان، و وراء هذه الأهداف الإنسانية هناك هدف آخر، وهو ملء الخليج بين المسلمين وغير المسلمين، وإتاحة فرص اللقاء بين المسلمين وقادتهم، وبين قادة الأديان الأخرى لإزالة الشكوك والشبهات في المسلمين التي تبثها الحركات الطائفية المعادية للإسلام والمسلمين، وعرض الوجه النقي لتاريخ الإسلام، وعرض صور التسامح التي تشتمل عليها تعاليم الإسلام، وقد شوه هذا الوجه و زور التاريخ المستشرقون وتلاميذهم بكتب موجهة تعتدي على الإسلام والمسلمين، وقد حققت هذه الحركة هذا الهدف الكامن، فاعترف بعض القادة من غير المسلمين أنهم ما كانوا يعرفون أن المسلمين أيضاً في قلوبهم محبة للإنسانية وللوطن، وإنما كنا نعرف أنهم حملة السيف.
ولم يمنعه الاشتغال بالتنصيف والتأليف، والتدريس عن معالجة القضايا العامة، سواء كانت هذه القضايا تتصل بالمسلمين، أو بغير المسلمين، فكانت حياة الشيخ الندوي حافلـة بالنشاطات الاجتماعية، ولذلك كان يتابع مجريات الحياة، فلما شاهد الشيخ الندوي تدهور الأحوال الاجتماعية، وطغيان المادة، وفساد البيئة العامة تصدى لمواجهته، وكان إنشاء حركة رسالة الإنسانية رمزاً لهذا الاهتمام بإصلاح البيئة العامة، وكان سماحته يشعر أن المجتمع الإنساني بمثابة سفينة إذا غرقت هذه السفينة غرق جميع أفراد هذا المجتمع.
وفي عام 1982م قام الشيخ الندوي برحلات متتابعة في أنحاء الهند المختلفة، وأقام اتصالات بالقادة ورجال الفكر.
وفي أحد هذه الاجتماعات، والذي عقد في حيدرآباد صرح سماحته :
“إن لكل إنسان في هذه الحياة دارين: دار يسكنها هو وأعضاء أسرته، ويحرص كل إنسان أن تكون هذه الدار مأمونة، وأن يعيش فيها بسلام، وهناك دار أخرى وهي أكبر من هذه الدار الشخصية، وهي دار البلاد، ونحن ننسى في غالب الأحوال عن هاتين الدارين كلتيهما لنا، إحداهما صغيرة، فيها أسرة واحدة، والأخرى كبيرة فيها المواطنون، وهم أفراد الأسرة الوطنية الكبرى، وترتبط مصلحة الدار الصغيرة بمصلحة الدار الكبرى، فإذا فسد نظام الدار الكبرى فسد نظام الدار الصغرى”، وقال :
إن فساد المجتمع، وإهمال مبادئ الأخلاق، وغلبة الشر، وحب المال يؤدي إلى فساد كل فرد من أفراد المجتمع.
وصرح الشيخ الندوي في كلمة ألقاها في إحدى الاجتماعات : “إن العالم الإنساني يحتاج فيما يحتاج إليه إلى أن توضع أمام الإنسان بالارتفاع عن المصالح الذاتية والعصبيات القومية والمصالمح السياسية، تلك الحقائق والقيم التي تلزم لنجاته وحياته بأمن وسلام، وهي حقائق إذا أغفلناها تعرضت حضارتنا ومجتمعنا لأخطار جسيمة، وواجهت الإنسانية صراعاً عنيفاً، قد بين هذه الحقائق الأنبياء في عصورهم، وجاهدوا في سبيلها، و لا تزال هذه الحقائق تحمل هويتها وتأثيرها ونفعيتها للإنسان وتقدر أن توصل الإنسان اليوم إلى النجاة، لكن الحركات والمنظمات المادية، والنزعات القومية أثارت الغبار الكثيف على الأنظار، ولكن ضمير الإنسان لم يمت رغم هذه العواصف الهوجاء، ولم يجمد ذهن الإنسان، ولم يتعطل عن العمل، فإذا عرضت الدعوة إلى هذه الحقائق بإخلاص وبأسلوب سهل يفهمه الإنسان اليوم، فإن ضمير الإنسان وذهنه سيتجاوبان لهذه الدعوة، ويعرف الإنسان أن هذه الدعوة بلسم لجروحه.
وقد حققت هذه الحركة هدف التقارب بين المسلمين وغيرهم، وجمعت على رصيف واحد أعداءهم الذين اعترفوا بعد سماع كلماته أن هذه الحركة حاجة العصر، وتغيرتصورهم عن المسلمين، وبذلك أتيحت لهم فرصة دراسة الإسلام، وتغير موقفهم إزاء قضايا المسلمين، بل قدم عدد منهم خدماتهم لحل قضايا المسلمين، وأصبحوا مدافعين عنهم، وكانوا يقومون بزيارة الأماكن التي تحدث فيها الاضطرابات الطائفية، ويشتركون في أعمال الإسعاف، وقد ساعدت هذه الاجتماعات في بعض الأماكن على إخماد الفتن وتهدئة الأعصاب ضد المسلمين.
وقد عارض بعض العلماء المخلصين العاملين في مجال الدعوة الإسلامية هذه الحركة لعدم فهم أهدافها ونوايا القائمين بها، وناقش بعضهم الشيخ الندوي في هذه المسألة، ولكن الشيخ الندوي واصل جهوده في هذه الجهة إلى آخر أيام حياتـه، وكان يثبت همم العاملين في سبيله ويؤيدهم.
منهجه لإصلاح المجتمع المسلم:
ولإصلاح المجتمع المسلم قاد الشيخ الندوي حركة إصلاح المجتمع الإسلامي لتنقية ما دخل في حياة المسلمين من عادات وتقاليد لا يقرها الإسلام، وعقد أول مؤتمر لعموم الهند لإصلاح المجتمع الإسلامي في ندوة العلماء برئاسة سماحة الشيخ الندوي، ثم فتحت فروع في المدن الأخرى، وتحولت هذه الحركة حملة مكثفة في عموم الهند، وكان لها أطيب الأثر، وكان من أهدافها مكافحة الاستغلال، والإسراف في الزواج، والمطالب الغالية، ومكافحة التمييز على أساس العائلة أو الطبقة أو الوضع الاقتصادي، وذلك في ضوء تصوره أن لكل إنسان دارين: دار صغيرة، و دار كبيرة، ولا يتم الإصلاح إلا بإصلاح الدار الصغيرة، والدار الكبيرة.
بالإضافـة إلى هذه النشاطات، كان سمـاحته دائم الفكـرة، والحذر عن الاتجاهات والنـزعات الهـدامة، كالقـومية، والتفرقـة العنصرية، والاعتداء على الضعفاء، واستغلال الإنسان، والتحديات الثقافية، والأخطار التي تحدق بالأمة الإسلامية، فكان يهب في كل موضع خطر، ويرفع صوته، فحـارب بقوة القومية العـربية التي تحولت إلى عقيدة و دين، وحارب النـزعة الاشتراكية التي أدت إلى إلحاد، وراسل الحكام المسلمين والملوك المسلمين، يدعوهم بأسلوب حكيم إلى الحفاظ على الثقافة الإسلامية، وكان ينصحهم كلما أتيحت له فرصة اللقاء بهم ليتخذوا وسائل كفيلة لوقاية البلدان الإسلامية من الذوبان، أو الاندثار والتبعية للقوى الخارجية،وتربية الجيل الجديد تربية دينية، من دون أي تقصير في اتخاذ وسائل مادية لرقي البلدان الإسلامية (ليراجع إلى ما كتبه سماحة الشيخ الندوي في”ماذا خسر العالم” و”الصراع” و”نحو التربية الإسلامية الحرة”.).
كان الشيخ الندوي يؤكد خلال حديثه مع المسلمين على أن يشتركوا في أعمال بناء الوطن، ويزيلوا من مجتمعهم أسباب التخلف، والصراع، والجهل، وأن يكون وجودهم باعث الخير والبركة لهذه البلاد، وقد نصح المسلمين لحل قضية سارة بانو المشهورة، وقضية المسجد البابري، وقضية القانون الموحد للأحوال الشخصية؛ باختيار طريق كسب ثقة أصحاب الضمائر الحرة والإنسانية من غير المسلمين لتأييد القضايا الإسلامية، وإجراء اتصال برجال الحكم بغض النظر عن حزبهم الذي ينتمون إليه، أو سياستهم التي يتبنونها، وكذلك بالقادة والزعماء من الأغلبية الحاكمة، وحتى مع كبار الكهنة الهندوس، وزعماء الأحزاب المتطرفة، وإجراء الحوار معهم،وبذل المجهود لنيل الحقوق المشروعة في إطار القانون والنظام، ومنع عن اتخاذ طرق العنف، والمظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات،وكان موضوع خطابه حتى في أيام مرضه” )يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعـل لكم فـرقـاناً ((الأنفال: 208) وكان يشرح الفرقان بأن تتميزحياة المسلمين عن غيرهم كلياً في سائر مجالات الحياة، وتتصف بالصدق، والأمانة، والإخلاص، والاجتهاد، والمؤاساة، والإيثار، فيكسبوا بهذه الخصال حب من يعايشهم وتقديرهم ويعتبروا بركة ولا وبالاً للبلاد.
لقد كان الشيخ الندوي بهذه الجهود داعياً إسلامياً، وإنسانياً، ومفكراً عظيماً، وعاملاً نشيطاً، ومجتهداً، صابراً في وجه الغزو، فكان خير خلف لأسلافه، وجامعاً لخصائصهم، ومميزاتهم، ولم تمنعه من هذه النشاطات أمراضه، وأشغاله المختلفة المتعددة، بل واصل جهده إلى آخر أيام حياته.
وقد كان الشيخ الندوي رجلاً قرآنياً، فكان منهجه وأسلوب دعوته مستمداً من القرآن الكريم وكانت هذه الآية القرآنية الكريمة نصب عينيه دائماً:” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ” (سورة النحل: 125).
الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي