كيف نتغلّب على الجرائم
12 نوفمبر, 2020الشيخ عبد الباري الندوي: حياته ومنجزاته
12 نوفمبر, 2020التطبيع والقيم الإنسانية
لماذا اختار الله العرب وجزيرتهم لتكون مبدأ نزول وحيه”القرآن”، ومبعث ومهاجر آخر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومركز دينه”الإسلام”؟
قد أجمل الله في الإجابة عن هذا السؤال بقوله:(الله أعلم حيث يجعل رسالته)[الأنعام:124].
اجتهد العلماء وتفننوا في الكشف عن هذا الإجمال القرآني، فدعوا ينابيع العلم والحكمة فتفجرت، وأسعفتهم القرائح فتفتقت، نظروا في قسمات البلاد، ولمعات الأديان، وشطحات الفلسفات، ولمسات الحضارات فأجمعوا على أن لم تكن منطقة أحق بهذا الاختيار من جزيرة العرب، لما فيها من أول بيت وضع لعبادة الله وحده، ولما لها من موقع جغرافي واستراتيجي متميز وميزة جيولوجية وجيوسياسية. وعلي أن لم يكن قوم أحق بهذا الإصطفاء من العرب؛لما ثبت بالدلائل أنهم كانوا أحسن من الروم والفرس، ومن الهنود والصينيين في الاستعداد المعنوي الروحي:من البراءة من آفات الصدور ومكروهات القلوب، ومن التحلي بالفضائل والقيم، وفي الاستعداد المادي؛ لما لهم من خصائص فسيولوجية وسيكولوجية، ومن لغة واسعة شاعرة، وقوة للحفظ خارقة، وعقلية عملية راجحة. وعلي أن لم يكن شخص في العرب أحق بالوحي والرسالة من محمد(عليه ألف ألف تحية وسلام)لما نبت وشب على الطهارتين:الباطنة والظاهرة، ولما حاز من مكارم الأخلاق أعلاها، وبلغ من المحامد والمحاسن ذراها: “ولقد اخترناهم على علم على العالمين”.[الدخان:32](1).
أبرزمارشح العرب لهذا الاختيار-على جهالتهم البسيطة وعلاتهم الكثيرة-تمسكهم بالقيم والفضائل، واستحسانهم لها والتباهي بها، وكفي دليلا على ذلك قول أم المؤمنين خديجة بنت خويلد-رضي الله عنها-وهي تثبت فؤاد رسول الله زوجها:
“كلا والله مايخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”(2).
فالقيم الإنسانية في المجتمع الجاهلي كان يرجو فاعلها وحاملها من الله الخير، رغم كونها جاهلية محضة في دوافعها ولكن هادفة ونبيلة في غاياتها، لذلك ما أبطلها الإسلام، وما استبدلها بقيم جديدة، بل أبقاها بالإصلاح في دوافعها، وبالتعديل في بعض أجزاءها.
كان من أبرز قيم عرب الجاهلية، وأطيب سجاياهم الإنسانية الكرم والجود، الشهامة والشجاعة، الأنفة والنخوة، المروءةوالوفاء بالعهد، والتطبيع العربي مع إسرائيل، الذى طفا اليوم، وكان في القاع منذ زمان، لا يناقض الإسلام فحسب في روحه ومقوماته، بل يناقض الجاهلية في قيمها الإنسانية التي كان يتحلى بها عرب الجاهلية، والتي تأهلوا بها وبأمثالها للاختيار الذى جعلهم شامة في الأمم، إنه لا يقدح في فضل إنتماءهم إلى الإسلام وفي رجولتهم فحسب بل يسلب منهم شرف”الإنسانية” وحتي ميزة “العربي الجاهلي” التى لم تبق ميزة بعد الإسلام.
كان الجود والكرم من دلائل الشرف وعلامات السيادة في الجاهلية، وللجود قصص وحكايات لايكاد يصدقها العقل لو لم تكن الروايات التاريخية المحكمة، والشعر العربي المتواتر الذي يدين له في جزء كبير من تراثه، والذى خلد ذكرأجواد العرب أمثال حاتم بن عبد الله الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب بن مامة الإيادي، وعبد الله بن جدعان وهشام بن عبد مناف وغيرهم(3).
استغل الإسلام هذه الموهبة وخلصها من دافع”الرياء”، ووجهها نحو”الإنفاق” الذى ورد في القرآن أكثر من سبعين مرة بصيغه المختلفة.
أين عرب الإسلام الذين يهرولون في تقلد التطبيع بحجة إقامة الأمن المزعوم في فلسطين، أين هم من هذا الإنفاق في فلسطين التي يرتفع فيها يوميا معدل البطالة، والفقر المدقع، وهبوط الاقتصاد، وانعدام الأمن الغذائي جراء الأعوام والسنين من الحصار المقيت والصراع البغيض الذي فرضته عليها إسرائيل؟
أين هم من تسديد الجوع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي تشهد طفرة سريعة في الأسعار التي ارتفعت بنسبة 400%، والبطالة التي بلغت 90%، والفقر الذي بلغ حوالي 80% حسب تصريحات حديثة لعلى هويدي مدير عام”الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين”(4).
كانت الشجاعة والشهامة من شيم عرب الجاهلية، وهي عزة النفس والمخاطرة بها حرصا على مباشرة الأعمال العظام، والمكرمات والمآثر توقعا للأحدوثة الجميلة والذكر الجميل، فكانوا لا يقبلون ذلا، ولا هوانا، ولا ضيما، ولا ظلما، لا على أنفسهم ولا على حلفاءهم، عمرو بن عبد ود الذى قتله علي بن أبى طالب رضي الله عنه كان يعد بألف، وما قصة عنترة بن شداد رقيق المولد والنشأة بسر.
حفظ الإسلام هذه الموهبة من الضياع في الحروب التافهة والمعارك الوهمية ودفعها وصبها بكل قوة في سبيل الله فدكت الحصون، وكسرت الإمبراطوريات، وفي سبيل الإنسانية ودفع الظلم فجاءت بخوارق وأعاجيب.
أين عرب الإسلام من هذه الشهامة والشجاعة؟ والتطبيع غزو في عقردارهم، وجثوم على صدور إخوانهم، ونزع لخلاخيل نساءهم، أهم عادوا لما نهوا عنه:
وأحيانا على بكرأخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا(5)
اشتهر عرب الجاهلية بنخوتهم وحميتهم، كان المهلهل بن ربيعة صريع الشهوات وعبيد الغوايات والغانيات، ولكن لما قتل أخوه كليب، ثار ثورة الأخيل، وقال: لست بخالع درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل والنهار(6) قتل عمرو بن كلثوم الفارس الشاعر، عمرو بن هند الملك، لكلمة قالتها أم الملك لأم الفارس، فأكبرتها وحسبتها إهانة لها، ثم قامت بعد ذلك معركة حامية، يا للعجب! في الجاهلية عراك لكلمة وفي الإسلام لا حراك لأمة؟
صحيح أن هذه الحمية نعى عليها الإسلام، وقضى عليها، ووجهها نحو الغضب لله ولرسوله ودينه، فأين عرب الإسلام وهل يعاني إخوتهم في فلسطين ما يعانون إلا بسبب الدين؟ أين هم والذل قابع بفناءهم لايبرح، والهوان نازل لساحتهم لا يزول؟
أما المروء ة والوفاء بالعهد فما بلغه قوم معشار ما بلغه العرب، كان يهون في نظر “العربي الجاهلي” كل غال ونفيس للحفاظ على العهد، إلى حد يثير الإعجاب، صمد هانئ بن مسعود الشيباني وحده أمام الإمبراطورية الفارسية، ولم يأبه للتهديدات حفاظا على وعده الذي قطعه لودائع النعمان بن المنذر(7).
أثر هذا الوفاء العربي حتى على اليهود الذين نزحوا إلى جزيرة العرب واستعمروها، وكان منهم السموئل بن عاديا الذي رأى ابنه يذبح أمامه، ولكنه لم يرض أن يخون عهده، حتى ضرب به المثل في الوفاء(8).
وهناك مآت من القصص للوفاء العربي، واستحسن الإسلام هذا الخلق، وزاده قوة وإحكاما، وأخرجه من العرف والتقاليد إلى الدين بمثل قوله:”وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا”[الإسراء:34] و”يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”[المائدة:1].
أين عرب الإسلام من تلك العهود التى هم ملزمون للوفاء بها بحكم المروءة والشرف، فضلا عن المعاهدات التى قطعوها على موائد المشويات، والمشروبات، والحلويات، والمعجنات، والبيتزاهات.
لايذهبن بأحد أجنحة الخيال إلى مسارح الظنون، فيرى أنى إذ أتمثل بالأمثلة الجاهلية أدعو إليها وأحييها، معاذ الله! فهل بعد الحق إلا الضلال، وقد أبدلنا الله الجاهلية بالإسلام، ونعم البديل هو، وحفل التاريخ الإسلامى بأمثلة هذه القيم، بل فيه ما هو أضعاف ما فى الجاهلية كما وكيفا.
أسوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحدها في القيم والمثل، لا تبلغ شأوها، بل لاتصلح أن تجاريها لا قيم جاهلية واحدة بل قيم الجاهليات كلها، فأين جودهم من جوده وقد كان أجود من الريح المرسلة؟ وأين قوتهم من قوته وقد أوتي قوة عشرة رجال؟ وأين شجاعتهم من شجاعته أمام مشرك اخترط سيفه على رأسه وهو نائم، ولم يتمكن من إثارة أدنى ذرة من الخوف في نفسه؟ وأين شهامتهم من شهامته يوم فتح مكة؟ وأين وفاءهم من وفاءه بتأدية الأمانات والضمانات لمن آذوه وأخرجوه من بلده، ومسقط رأسه، ومهوى فؤاده؟ بل لا مساواة بين أدنى قيم أتباعه صلى الله عليه وسلم وأتباع أتباعه ومن نزلوا، وبين أعلى قيم الجاهليين ومن علوا ومهما علوا(9).
هذا عمربن عبدالعزيز الخليفة الأموي سمع أن رجلا مسلما في بلاد الروم قد أهين، فكتب إلى ملك الروم(10):
“لقد بلغني أن مسلما استذل عندكم وأسر، فإذا وصلك كتابي هذا، فخل سبيله، وإلا غزوتكم بجنود أولها عندك وآخرها عندي”.
وفعلا عندما لما بلغت الرسالة الإمبراطور بحث عن الأسيرففك أسره وبعثه إلى الخليفة يخبره بذلك.
فتح المعتصم الخليفة العباسي عمورية المنيعة، المستعصية على الأباطرة والملوك لصرخة إمرأة مسلمة مجهولة “وامعتصماه” عندما لطمها رومي(11).
هما مثلان لقيم النخوة والحمية الإسلامية التي جاشت وتحركت لرجل وامرءة، فلماذا لا تجيش ولا تثور العواطف اليوم، ولاتنطلق القيم لأمة مهيضة الأجنحة ولكن مرفوعة الهامات، مخضودة الشوكة ولكن منتصبة القامات، مهضومة الحقوق ولكن مجلوبة الجدود، خاوية البطون ولكن محكمة الفقار والظهور، محتلة الأرض والأجساد ولكن حرة الضمائر والنفوس.
العرب ليس لهم اليوم إلا خياران:
إما أن يعودوا إلي قيم الإسلام عودة صادقة فتفتح لهم ما فتحت لكل من أخلص لها من الأفراد والجماعات عبر التاريخ، وأن ينفضوا أيديهم عن هذا التطبيع، الذي سبقه التجويع، والتشريد، والتقتيل، والتهويد:تهويد العقول والأفكار، وأقوى دليل على ذلك مقال نشر قبل سنوات بعنوان:”يهود جزيرة العرب واضطهاد محمد لهم” كتبه محمد إبراهيم الغبان رئيس قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى والدراسات بقسم اللغات الحديثة والترجمة بجامعة الملك سعود بالرياض(12) وآخر وليس أخيرا ما كتبه حديثا حمد المزروعى الإماراتي: “إن النبي محمد ظلم اليهود”، وطلب تصحيح الخطأ التاريخي ضد اليهود بدفع التعويضات وإعادة الإسكان(13)، وآلا سيعود هذا التطبيع طبعا على القلوب، وسببا لتنفيذ سنة الله فيهم.
وإما أن يعودوا على الأقل-لا قدر الله ولا سمح بذلك- إلى “الإنسانية” من قيم الجاهلية فيحفظون ماء وجوههم، ويبقى لهم الأمل في استمرار حق الترشح والإختيار، وإلا سيفقدون هذا الحق كما فقدته الامبراطوريات الكبرى والحضارات العظمى فى القرن السادس المسيحى (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) [سورة الأنعام:89]، (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [القصص:68].
الهوامش:
1-أفرد بعض أهل العلم بالكتابة في الموضوع، وتطرق بعضهم إليه في كتب السيرة النبوية، وفيما يلي أسماء بعض منها:
1-صفة جزيرة العرب: الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمذاني. 2-جزيرة العرب بين التشريق والتكليف: أ.د/ناصر بن سليمان.3-خصائص جزيرة العرب: بكر بن عبد الله أبو زيد.4-فضل العرب والتنبيه على علومها: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدستوري.5-مبلغ الأرب في فخر العرب: الحافظ ابن حجر الهيثمي.6-السيرة النبوية: العلامة الندوي.7-حياة محمد: محمد حسين هيكل.
2-الجامع الصحيح للبخاري-بدء الوحي-رقم الحديث:3.
3-كتاب الديباج: أبو عبيدة معمر بن المثنى، ص:3، الكامل في اللغة والأدب: أبو العباس المبرد، دارالفكر العربي، القاهرة.
4-الأمم المتحدة، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (14 ديسمبر2018)، قناة الكوفية الفضائية (20 يوليو2020).
5-قاله القاطمي:الكامل في اللغة والأدب: أبو العباس المبرد.
6-المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د/جواد علي، ج:10، ص:29.
7-الكامل في التاريخ:ابن الأثير، ج:1،ص:168 (الشاملة).
8-الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني، 22/126 (الشاملة).
9-مواقف معروفة من السيرة النبوية، مسجلة في دواوين الأحاديث والسيرة.
10-خطب الشيخ القرضاوي، الجزء الثامن، ص:349.
11-التذكرة الجمدونية:ابن حمدون، 1/464(الشاملة).
12-موقع إضاآت الإخباري. (7/9/2020).
13-موقع سكوب بوست، المصدر: refransmedya.
سلمان نسيم الندوي