أمراض المجتمع وعلاجها (14)

داء الغفلة وسبيل النجاة منه
24 سبتمبر, 2025
اسمعي يا مصر (2/الأخيرة)
25 سبتمبر, 2025
داء الغفلة وسبيل النجاة منه
24 سبتمبر, 2025
اسمعي يا مصر (2/الأخيرة)
25 سبتمبر, 2025

أمراض المجتمع وعلاجها (14)

فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
الأمراض المالية:
من أخطر الأدواء التي نخرت في جسد هذه الأمة، وتغلغلت في أعماقها حتى أصبحت كالسُّمّ القاتل، هو داء “محبّة الدنيا” والتعلّق بها، وقد نبّأ المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الخطر الداهم في حديثه الشريف، فقال صلى الله عليه وسلم: “فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم.” (صحيح البخاري: كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة……..: 3157)
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخف على أمته الفقر، بل خاف عليهم من غنى لا يضبطه زهد، ومن رغبة لا يلجمها ورع، ولقد أصبح هذا الهاجس الذي أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم واقعًا ملموسًا نراه في كل شعبة من شعب الحياة، فما من خاصّ ولا عامّ، ولا متعلّم ولا جاهل، إلا وتراه أسيرًا في شِباك حبّ الدنيا، لاهثًا خلف بريقها، متفنّنًا في طلبها، لا يلتفت إلى عواقبها، ولا يبالي بمغبتها، ولو كان ذلك على حساب دينه وضميره.
وقد بلغ الحال أن أهل الدِّين أنفسهم – إلا من رحم الله – ما عادوا في مأمن من هذا الداء، بل يتسلّل إليهم حبُّ الدنيا شيئًا فشيئًا، فيذبل نور الإيمان، وتخبو حرارة التعلق بالآخرة، إنه لمرضٌ عضال، هو أصلُ كلّ داء، وجذرُ كلّ خطيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم بحق: “حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة”. (جامع الأصول في أحاديث الرسول: 2603)
فإذا استقرّ حبُّ الدنيا في القلب، عَمِيَ البصرُ والبصيرة، فيبيع الإنسان ضميره، ويُفرّط في أمانته، ويظلم ويغشّ، ويكذب ويخون، ويأخذ الرشوة، وينقص الكيل والميزان، لا لشيء إلا من أجل متاع قليل.
وقد جاء التحذير النبوي البليغ من هذا الداء في الحديث الشريف، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا. (صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال: 328).
عندما تتسلّل محبّة الدنيا إلى القلوب، تُعمِي الأبصار، وتطمس البصائر، فيغفل الإنسان عن عاقبته، ويُلهيه بريق الفناء عن أنوار البقاء، حتى لا يكاد يدري ما يفعل، ولا إلى أين يسير، يركض وراء السراب، ويحسبه ماء، وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الدنيا عند الله بقوله صلى الله عليه وسلم: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء” (سنن الترمذي: أبواب الزهد: 2320)
ويزيد القرآن هذه الحقيقة بيانًا، في آية تهزّ القلوب الغافلة، وتفتح أعين العقول النائمة، حيث يقول سبحانه: “وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ” (الزخرف: 33–35)
فالدنيا مزرعة، والآخرة الحصاد، فطوبى لمن حرث أرضها بالتقوى، وسقاها بدموع الخشية، وبذر فيها العمل الصالح، فإنّه يوم القيامة يفرح بالثمر الطيب، في جنّات الخلد.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها في فقرٍ وزهد، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقِدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. (متفق عليه) أي أن حياتهم اليومية كانت بسيطة جدًا رغم أن هذا كان في عصر المدينة المنورة، ووقتها فتح الله بلادًا واسعة.
ومع ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم يرضى بأن يبقى شيءٌ في بيته من مال أو ذهب دون أن يُنفق في سبيل الله، فعن عقبة قال: “صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم ثم قام مسرعًا، فتخطّى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئًا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته”. (صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من صلى بالناس فذكر حاجة: 851)
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته الفقر والزهد، وعلّم الأمة بذلك أن الكفاف مع العفاف أحب إلى الله من الغنى مع الغفلة، فقد دعا قائلاً: “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا” (صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة: 2474) وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يا رسول الله، إني أحبك”، فقال له: “فأعدد للفقر تجفافًا”. (سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل الفقر: 2523)
من أعظم الأسباب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هلاك الأمة وانهيار هيبتها، التعلّق بالدنيا وكراهية الموت، ففي الحديث الشريف: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”.
فقال قائل: “ومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟”.
قال: “بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينـزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن”.
قالوا: “وما الوهن يا رسول الله؟”.
قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”. (سنن أبي داؤد: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم: 4299)
هذا الحديث ينطبق على وضعنا الحالي انطباقًا، فإن عدد المسلمين في الدنيا لم يكن أبداً كمثله، ولكن أمم الدنيا تهجم على المسلمين، وقد ظهر في المسلمين ضعف عظيم، حتى كأنهم لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم، وهذا الضعف ليس إلا نتيجة حب الدنيا.
لم يُذَمّ المال في كتاب الله، بل سُمي خيرًا ‌” وَإِنَّهُ ‌لِحُبِّ ‌الْخَيْرِ ‌لَشَدِيدٌ” (العاديات:8) لكن بشرط أن يُوضع في موضعه، ويُستخدم في طاعة الله ونفع الخلق، وقد قال أحد العارفين: “المال ليس موطنه القلب، فإن دخل إليه أفسده، وأحدث فيه عَفَنًا، وانقلبت الأحوال بسببه”.
ولاريب أن هذا الداء هو من أكبر أسباب فساد المجتمعات اليوم؛ إذ بسببه تُنتهك الحقوق، ويُظلم الورثة، ويُهضم الشركاء، وتُخان الأمانة، فتتشقق القلوب، وتُبذر بذور العداوة، وتندلع نار الخصام والنزاع.
إنه داءٌ إذا لم يُعالج تفشّى، وإذا تُرك استشرى، حتى يصير الإنسان به شحيحًا بخيلًا، لا يُنفق ولا يُؤاسي، عندئذٍ تصدق عليه المقولة: “تذهب العصفورة ولا يذهب الفلس”، أي يفقد كل شيء إلا درهمه!
وقد صوّرت السنّة هذا الحال في حديثٍ بليغ، جاء فيه: “مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما؛ فأما المنفق، فلا ينفق شيئًا إلا سبغت على جلده حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل، فلا يريد أن يُنفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع”. (صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل: 1443)
محبة الدنيا داءٌ يعمي البصيرة، فلا يَعُود يرى الإنسان إلا المال، حتى تُنسِيه هذه الفتنةُ حقوقَ الآخرين، لا أرواحًا ولا إخوة، ويصبح حال المجتمع “نفسي نفسي”، كلٌّ منشغلٌ بجمعه، غافلٌ عمّن حوله، ثم لا تقف الغفلة عند هذا الحد، بل تمتدّ حتى ينسى الإنسان نفسه، فلا يرعى صحته، ولا يأبه لكرامته.
ومن هذا الداء تنبت شجرة الطمع، وتثمر بخلًا وحرصًا، حتى إذا اشتدّ المرض، هانَت عليه المعاصي، وربما سوّلت له نفسُه السرقة أو القتل لأجل حفنة من النقود الزائلة، فصار المال عنده أغلى من دم الإنسان وحرمة الأرواح.
فإن محبة الدنيا، إذا استبدّت بالقلب، صارت أصلًا لألف داء، ومفتاحًا لأبواب الفساد، فلا صلاح للقلب إلا بفكاكٍ من أسرها، ولا نجاة للروح إلا بالزهد في زخرفها.
[تعريب: سعد مبين الحق الندوي]