الهجرة ميلاد جديد للروح

وفي العتاب حياة بين أقوام
21 أغسطس, 2025
كن في الدنيا كأنك غريب
12 أكتوبر, 2025
وفي العتاب حياة بين أقوام
21 أغسطس, 2025
كن في الدنيا كأنك غريب
12 أكتوبر, 2025

الهجرة ميلاد جديد للروح

محمد خالد الباندوي الندوي
أخي العزيز!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لعلك تعرف – أيها الأخ – هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من مولده إلى المدينة المنورة، فهل تعرف رسالة هذه الهجرة المباركة؟ وهل تعرف ما تطالب الأمة الإسلامية من مشارق الأرض إلى مغاربها من أهداف نبيلة، وما تقتضي منها من معان سامية، وهل تعرف لِمَ غادر المؤمنون الأرض التي ألفتها قلوبهم وعشقتها نفوسهم؟
إن الهجرة – أيها الأخ – ليست انتقالا من أرض إلى أرض، وإنما هي ميلاد جديد للروح المؤمنة، وارتقاء بالقلوب من أسر الأرض إلى فضاء السماء، هي النقطة التي التقت فيها دموع الوداع بحلاوة الرجاء، فاصطفت الأرواح لتعلن أن السير إلى الله لا يُقاس بالأميال ولا بالمسافات، وإنما يُقاس بخطوات القلوب نحو النور.
الهجرة – يا أخي – ليست صفحة طُويت في كتب التاريخ، ولاحادثة مضت وانقضت بانتهاء الطريق بين مكة والمدينة؛ إنما هي رحلة ممتدة في ضمير الأمة ووجدان كل مؤمن، فالهجرة في جوهرها ليست انتقال الأقدام من أرض إلى أرض، بل هي انتقال القلوب من غفلة إلى يقظة، ومن ضعف إلى قوة، ومن هوى إلى هدى.
لقد غادر النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة أحب بلاد الله إليه ـ ليعلّمنا أن محبة الله ورسوله فوق كل محبة، وأن القلب إذا تعلّق بالسماء، هانت عليه كل أرض، وفي غار ثور، حين قال أبو بكر: “لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، أجاب النبي – صلى الله عليه وسلم – “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟”. هناك تعلّم المؤمنون أن السكينة مع الله أوسع من الأرض، وأقوى من الحصون.
فالهجرة ليست حدثًا مضى، بل معنى يتجدد في كل عصر: فمن هجر معصيةً إلى طاعة فقد هاجر، ومن ترك ظلمًا إلى عدل فقد هاجر، ومن أقبل بقلبه على الله بعد طول غياب فقد ذاق حلاوة الهجرة، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، لتبقى الهجرة طريقًا مفتوحًا لكل قلب يريد أن يقترب من ربه.
وحين دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة، لم يكن يؤسّس مدينة فحسب، بل كان يعلن عن ميلاد حياة جديدة، فيها أخوّةٌ تغلب العصبية، وإيمانٌ يغلب المصالح، ونورٌ يبدد ظلام الجاهلية، تلك الروح لم تنطفئ، وهي تنادي المؤمنين اليوم أن يهاجروا من جمودهم إلى حيويتهم، ومن تفرقهم إلى وحدتهم، ومن ضعفهم إلى عزّتهم.
إن الهجرة – أيها الأخ – وإن كانت حادثة قد مضت، ولكن تبقى رسالتها خالدة على مر الدهور، وتبقى معانيها تتجدد على تعاقب العصور، لأنها في أعمق صورها هى تحرر الروح من أسر الوطن والتراب، وانطلاقها إلى فضاء أوسع وأرحب، فضاء تتحلق فيه الروح دون قيود وأغلال، وتترك وراءها أثقال الشهوة والأنانية، وتطير بجناحي اليقين والتوكل نحو وطنها الأول، ولا تحط رحالها إلا في دار القرار.
فكن – ياأخي – مهاجرا في معنى الكلمة، واهجر ما يثقلك عن الله، اهجر عادةً سيئة أو غفلةً قاسية، وامضِ بخطاك نحو نورٍ جديد، فكل خطوة إلى الله هجرة، وكل دمعة ندمٍ في جوف الليل هجرة، وكل عزمٍ على طاعة بعد معصية هجرة، إنها الهجرة التي لا تنقضي حتى يهاجر القلب إلى ربّه، فيجد عنده القرار والسكنى.