نبيُّ الرحمة

غياب القيادة وأزمة الرجال
14 أغسطس, 2024

نبيُّ الرحمة

د/ محمد وثيق الندوي

“لقد تغيَّرت الدنيا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبفضل تلك التعاليم السامية، كما يتغير الطقس، وانتقلت الإنسانية من فصل كلُّه جدب وخريف، وسموم وحميم، إلى فصل كلُّه ربيع وأزهار، وجنات تجري من تحتها الأنهار، تغيرت طباع الناس، وأشرقت القلوب بنور ربها، وعم الإقبال على الله، واطلع الإنسان على طعم جديد لم يألفه، وذوق لم يجربه، وهيام لم يعرفه من قبل. وانتعشت القلوب الخاوية الضامرة الباردة الهامدة، بحرارة الإيمان وقوة الحنان، استضاءت العقول بنور جديد، وسكرت النفوس بنشوة جديدة، وخرجت الإنسانية أفواجاً تطلب الطريق الصحيح ومحلها الرفيع، وتحن إلى مكانتها السامقة العالية”. (السيرة النبوية للشيخ أبي الحسن علي الندوي، ص: 484)

صدق الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي –رحمه الله– وأحسن وصف فضل البعثة المحمدية، لأن الفترة قبل البعثة النبوية، كانت من أشدِّ الفترات التي مرَّت بها الإنسانية ظلامًا وانحطاطًا، ومن أحطِّ أدوار التاريخ دينًا وخُلقًا، كانت الإنسانية تعاني فوضى عارمة في سائر شؤون حياتها، وكانت الجاهلية بأنواعها وألوانها مهيمنة على العقائد، والأفكار، والتصورات، والنفوس، وأصبح الجهل والهوى، والانحلال والفجور، والتجبُّر والتعسُّف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس.(الغرباء الأولون، لسلمان العودة، ص: 57)

فبالجلمة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولاحكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء،” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ” (الروم:41).

في هذا الوضع المظلم انبثق نور الحق وطلع الصبح الصادق فبُعِث خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله الأمين، رحمة للعالمين، ومنقذًا للبشرية، وهاديًا للإنسانية، ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فأنقذ الإنسانية من هاوية الدمار والهلاك، ومن حضيض الذلة والهوان إلى قمة الصلاح والبناء والعز والشرف، وأعطاه الله الكتاب السماوي الخالد “القرآن” الذي ” لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ” (فصلت: 42) ليهدي الناس للتي هي أقوم إلى يوم القيامة، بجنب تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم الباقية إلى يوم القيامة، لتسلك الأمة المسلمة الصراط المستقيم في ضوء هدايتها بدون تعثُّر، ولا التفاتٍ يمينًا وشمالاً، ولا ينغلق عليها الطريقُ السويُّ.

فالرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين على اختلاف أديانهم وأعراقهم، بل إن في تعاليمه ما يؤكد على الرحمة للطيور، والحيوانات، وحشرات الأرض، وعلى تحريم الإضرار بها بدون حق، والاعتداء عليها، فكانت رحمتُه شاملة لسائر بني الإنسان والطير والحيوان حيث أمر بالرفق بها، وتوعَّد من عذَّبها أو أساء إليها حتى تموت بالعذاب، والنار في الآخرة، وللرفق بالحيوان أمثلة كثيرة في السيرة النبوية.

ودافع نبي الرحمة عن حقوق الإنسان، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا، وقرر جملة من المبادئ السامية في هذا المجال، ومن ذلك نصه في خطبة حجة الوداع على شدة تحريم الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض، وذلك قبل أن يعرف العالم قانون الشرط الكبير عام 1215م، ووثيقة إعلان الحقوق عام 1628م، وقانون تحرير الجسد عام 1679م، وإعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776م، ووثيقة حقوق الإنسان والمواطن عام 1789م، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، وقد تعدت هذه المبادئ للحقوق في الإسلام حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان والنبات والبيئة التي قرر المحافظة عليها من شعب الإيمان، فقال رسول الرحمة: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”، كما نهى نبي الرحمة أن يقضي الإنسان حاجته في المكان الذي يستظل فيه الناس، ورفع نبي الرحمة من شأن الأخلاق في حياة الإنسان، فدعا إلى الأخلاق الكريمة مثل الصدق والوفاء والعفاف، ودعا إلى توثيق الروابط الاجتماعية من برِّ الوالدين، وصلة الرحم، ونهى عن الأخلاق السيئة مثل الكذب والغدر والحسد والزنا، وعقوق الوالدين، ودعا نبي الرحمة إلى إعمال العقل واكتشاف الكون واكتساب المعرفة، بينما كان العلماء والمفكرون يعانون في حضارات أخرى من الاضطهاد والقسوة والتعذيب والسجن، حتى الإعدام والقتل والحرق وهم أحياء.

وجاء نبي الرحمة بدينٍ من عند الله، وهو الإسلام، يدعو إلى التوازن بين حاجات الروح ومطالب الجسد، فهو موافق للفطرة البشرية، يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد، ويوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، يهذب غرائز الإنسان ونوازعه ولا يكبتها أو يلغيها كما حصل في حضارات أمم أخرى والمسيحية المحرفة، والحضارة المعاصرة، ولقد ضرب نبي الرحمة أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي، كما قدم للبشرية النموذج المتكامل في الأخوة بين بني البشر،فكلهم متساوون في أصل الخلقة والحقوق والواجبات، قال في حجة الوداع: “يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى”.( رواه أحمد)

فالعالم المعاصر الذي يئن تحت وطأة من يحمل في جنبه قلبًا كأنما قُدَّ من حجر، لا يعرف الحنان والرحمة، ولا يعرف معنى الحب والإيثار، والأمن والسلام بسبب الحضارة المادية الجامحة التي لا تعرف رحمة ولا هوادة،ولا رفقًا ولا إيثارًا، لا يقدر على إسعاده إلا المؤمنون المتبعون لتعاليم نبيِّهم وهو نبيُّ الرحمة،الذي علَّم أتباعه أن يحملوا في جنوبهم قلوبًا تفيض حنانًا للبشر، ويجمعوا بين الرحمة والشدة، والصلابة والرأفة، وشكيمة الأسد وحنان الأم، فتخلقوا بأخلاق رسولهم الرؤوف الرحيم، فجمعوا بين الرأفة والرقة، والحمية والغيرة، فلا يغضبوا لنفوسهم حتى إذا تُعدِّي الحق لم يقم لغضبهم شيء، فبينما تراهم في ميدان الكفاح والجهاد كأنهم نار في حطب، أم منجل في حقل، ليست لهم عاطفة ولا قلب، إذا بهم تراهم في الصلوات تهمل عيونهم، وتغلي صدورهم كالمرجل، وتراهم يرقِّون للضعفاء، ويحنون على الأرامل واليتامى، قد جمعوا بين حلاوة العسل ومرارة الحنظل، إلا أن الأولى لهم سجية وطبيعة، والثانية لهم وسيلة وذريعة،كما كتب الشيخ أبو الحسن علي الندوي، فهم ينشدون بلسان الحال بيت حسان بن ثابت رضي الله عنه: “وإني لحلو تعتريني مرارة”، ولا يدعون السماحة والكرم والعفو والصفح حتى مع ألد الأعداء، ولا يتركون الالتزام بالأخلاق العالية والسلوك الحسن في الحرب.
فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم “نبي الرحمة”، والرحمة هي صورة الإسلام الغالبة “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:107).
×