عاتب نفسك بنفسك

حفلة التعزية على وفاة الأستاذ نذير أحمد الندوي
22 نوفمبر, 2025
حفلة التعزية على وفاة الأستاذ نذير أحمد الندوي
22 نوفمبر, 2025

عاتب نفسك بنفسك

محمد خالد الباندوي الندوي
أخي العزيز!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في صفحات السيرة النبوية– أيها الأخ– صور ناطقة تهز القلب وتربّي النفس، وقصص تربوية تحلق بك إلى عالم يسوده الشعور بعظمة الله وضآلة الإنسان، ويتجلى فيه الإيمان الصادق بمبدأ” هنالك الولاية لله الحق ” الذي يملأ القلب روعة ومهابة، ويبعث على اعتراف الذنوب بعاطفة صادقة، ثم اللجوء إلى الله وحده والتوبة إليه.
ومن أبدعها قصة الصحابي الجليل أبي لُبابة رضي الله عنه، التي تُجسّد معنى الرقابة الإيمانية، وصدق التوبة، وسموّ الأخلاق التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه.
كان ذلك يومَ نزلت ببني قريظة نازلة الخيانة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم من يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى التسليم لحكمه. فذهب أبو لُبابة رضي الله عنه، وكان بينهم قرابةٌ وصلة، فلما رأى وجوههم المتوسلة أشار بيده إلى حلقه، كأنه يقول: «سيُقتل مَن ينزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم». لم يتكلّم بكلمة، ولكن الإشارة وحدها حسبها زلّةً في ميزان الصدق والولاء لله ورسوله.
ما إن فعل ذلك حتى اضطرب قلبه، وشعر أن خطيئته عظيمة، وأنه خان أمانة الدعوة والرسالة، فخرج من ديار بني قريظة ولم يلتفت، ومضى حتى بلغ المسجد النبوي، وربط نفسه في سارية من سواريه، وقال: «والله لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ». ستة أيامٍ كاملة ظلّ فيها صائمًا باكيًا، لا يتحرك إلا للصلاة، ينتظر رحمة الله. حتى نزل قول الله تعالى:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102].
فجاءه الصحابة يبشّرونه بقبول التوبة، وحلّوا وثاقه، فخرّ ساجدًا لله شكرًا وبكاءً.
ما أروع هذا القلب الذي لم ينتظر لومًا ولا عقوبة، بل عاتب نفسه بنفسه، لقد كان أبو لُبابة مدرسةً في الحسّ الأخلاقي الذي يجعل الإنسان يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب. لأن الإيمان خالط سويداء قلبه وسرى منه مجرى الدم، وأدرك أن الإيمان ليس كلمات تتردد على اللسان، بل هو شعور بالرضا عند الطاعة، وألم عند المعصية. حين ضاق صدر أبي لُبابة بذنبه، كان ذلك برهانا لصدق إيمانه، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن».
لم يبرّر فعله، ولم يُلقِ التهمة على غيره، بل قال بكل ثقة: “لقد خنتُ الله ورسوله”. فصار اعترافه هذا أول خطوة إلى التوبة. وتربية نفسه على الصدق، إذ التمادي في الذنب يزيدها ظلمة، أما الاعتراف فهو بداية النور، ولم يسخر أحد من أبي لُبابة حين ربط نفسه بالسارية، فقد أيقنوا أنه بعمله هذا يريد الصعود إلى مقام الصفاء وتطهير باطنه من أرجاس المادية وتزكيته من علائق الدنيا، ولم يطرده النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، بل تركه حتى يتطهّر بنفسه، فلما نزل العفو استقبله الصحابة بالبشرى والمودة. وإنها من شيم التربية النبوية: الرحمة كل الرحمة التي تخلو عن أي قسوة وإذلال، الرحمة التي تُعيد التائه إلى الطريق.
إن قصة أبي لبابة – أيها الأخ – مرآة يرى فيها المؤمن نفسه كلما أخطأ الطريق، إنها تذكّرنا أن ضمير المؤمن الصادق لا يهدأ حتى يعود إلى ربه تائبًا منيبًا، فما أجمل أن يعيش الإنسان بهذا الوعي الحيّ: إذا سرّته طاعته، وساءته معصيته، فهو مؤمنٌ حيّ القلب، طاهر السريرة، من أهل الأدب والتربية الربانية.