أمراض المجتمع وعلاجها (15)

التسامح في الإسلام
12 أكتوبر, 2025
صلة الأمة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم
12 أكتوبر, 2025
التسامح في الإسلام
12 أكتوبر, 2025
صلة الأمة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم
12 أكتوبر, 2025

أمراض المجتمع وعلاجها (15)

فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
[تعريب: سعد مبين الحق الندوي]
الحرص والطمع:
أما الحرص والطمع فهما داءان عضالان، متى تمكّنا من القلب، لم يتركا له سكينةً ولا قرارًا، والحرص إذا استولى على الإنسان، لا يُروى له ظمأ، ولا يُشفى له جَنان، وقد جاء في الحديث الشريف: «منهومان لا يشبعان؛ منهوم في العلم لا يشبع، ومنهوم في الدنيا لا يشبع». (المستدرك للحاكم: كتاب العلم: ٣١٢) فالأول في طلب العلم في سبيل الله، لا يزال في ازدياد مبارك، أما الآخر، فإنما هو لهاثٌ خلف الدنيا لا نهاية له، جريٌ وراء السراب
وحين يستبدّ الطمع بالنفس، يعلو فيها صوت “المزيد”، ويرتفع شعار “هل من مزيد؟”، حتى لو ملك واديًا من ذهب، لابتغى ثانيًا وثالثًا، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديًا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب». (صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال: 6439)
إذا تسلّل الطمع إلى قلب الإنسان، سلبه من أعظم الخيرات، فصار لا يُنفق، ولا يُواسي، ولا يُعين، لأنه أسيرٌ لشحّ نفسه، وهذا الشحّ يقطع ما بينه وبين الناس، فينفرون منه، ويخشَون صحبته، ومن كان كذلك، فلا يعرف طريق الفلاح، فالفلاح الحقيقي هو أن ينجو الإنسان من شُحّ نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [الحشر: ٩]
وكثيرًا ما يكون هذا الداء سببًا في خراب البيوت، فالرجل يُمسك عن النفقة، فتتكرّر الخصومات، وتشتدّ النزاعات، وليس الطمع أن يبخل الإنسان بماله فحسب، بل أن تمتدّ عينه إلى ما في أيدي الناس، يتمنّى لو كان له وحده، فيغدو أنانيًّا، لا يرى إلا نفسه، ولا يهتمّ إلا بمصلحته، وهذا ضدّ ما دعا إليه الإسلام من الإحسان والإيثار. وقد أثنى الله تعالى على أهل الإيثار في قوله الكريم: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» [الحشر: ٩]. فالإيثار قمة الكرم، ومنتهى النُّبل، أن تعطي وأنت محتاج، وأن تُقدّم غيرك على نفسك، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، وهذا هو جوهر الأخلاق النبوية.
ويبلغ الطمع أحيانًا بصاحبه حدًّا من الغلظة والظلم، حتى يُعمي بصيرته، ويقوده إلى ارتكاب أبشع الجرائم، فلا يتورّع من إزهاق الأرواح وسفك الدماء، إذا رأى في ذلك طريقًا إلى المال، وقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خطورة هذا الداء، وبيّن ما يجرّه من شرّ وفساد، فقال في الحديث الشريف: «إيَّاكم والشُّحَّ، فإنما هَلَكَ مَن كان قَبلَكم بالشُّحِّ: أمرهم بالبُخلِ فبَخِلُوا، وأمرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعُوا، وأمرَهم بالفُجُور ففَجَرُوا» (سنن أبي داؤد: كتاب الزكاة، باب في الشح: 1/238).
أسوأ ما يُبتلى به الإنسان، خصلتان تُفسدان قلبه وتُقزِّمان مروءته: “شحّ” يملأ النفس فزعًا على ما في يديه، فيمنعه من البذل ويستعبده الخوف من الفقر، و”جبن” يخلع الفؤاد من مكانه، فيسلبه الشجاعة ويُطفئ جذوة الإقدام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ ما في رجُلٍ شُحٌّ هالعٌ وجُبنٌ خالعٌ» (سنن أبي داؤد: كتاب الجهاد، باب الجرأة والجبن: 1/340)
وقد قال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ» (سنن النسائي: كتاب الجهاد، باب من عمل في سبيل الله: 2/45). وهذه حقيقة أن القلبُ لا يتّسِع لضياء الإيمان وظلمة الحسد معًا؛ فالإيمان يورث صفاءً وطمأنينة، أمّا الحسد فينفث سُمَّه في الروح، ويُطفئ نور الرضا، فإذا دخل الحسد إلى الصدر، ضاق عن الإيمان، لأن أحدهما يُنعش القلب والآخر يُفسده، ولا يجتمع النور والظلام في مكان واحد.
أما الإنسانُ كلما تقدّم به العُمر وذبل جسده، شاخت أعضاؤه وضعفت قواه، غير أن في داخله شيئًا يزداد اشتعالًا بدل أن يخمد: حرصٌ لا يهدأ على إطالة الحياة، وشهوةٌ متجدّدة إلى جمع المال، ففي الحديث الشريف: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الحِرْصُ عَلَى العُمُرِ وَالحِرْصُ عَلَى المَالِ» (سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء قلب الشيخ…: 1/59)
وقد روي عن كثير من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» (سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: 63/2)، فالطمع في الدنيا والرغبة في المنزلة بين الناس يُمزّقان دين الإنسان من الداخل، كما يُمزّق الذئب اللحم، بل أشد وأنكى، لأن ما ينهشه الذئب جسدٌ فانٍ، وأما ما يفتكه الحرص والشرف فهو إيمان المرء وروحه.(يتبع)