المنصات الاجتماعية كأنظمة سلوكية
25 سبتمبر, 2025أمراض المجتمع وعلاجها (15)
12 أكتوبر, 2025التسامح في الإسلام
خليل أحمد الحسني الندوي
يقدم الإسلام نفسه، منذ نزوله بوصفه رسالة إنسانية تستند إلى قيم الفطرة السليمة، وتهدف إلى تحرير الإنسان من عبودية الأهواء وضيق الأحقاد، لترفعه إلى فضاء العدل والرحمة والمساواة، ليست هذه المبادئ شعارات تزين الخطاب الديني فحسب، بل هي أسس حضارية، أراد الإسلام من خلالها أن يعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته، وبغيره، وبالعالم من حوله، وفي ظل التوترات العالمية المتصاعدة، والنزاعات التي تدمر المجتمعات، يصبح اختيار هذه القيم ضرورة ملحة، لا رفاهية فكرية ولا ترفًا أخلاقيًا.
لقد قرر القرآن الكريم مبدأ الكرامة الإنسانية مقرونًا بالتقوى لا بالنسب ولا باللون ولا بالعرق، فقال تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”، ثم بيَّن معيار التفاضل بقوله: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، هذه الصياغة القرآنية لا تمنح الإنسان كرامته فحسب، بل تحرره من مقاييس الامتياز الزائفة التي أسست تاريخيًا للهيمنة والتسلط والتمييز.
أما رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فقد جسّد هذه المبادئ في سلوكه قبل أقواله، فكان رائدًا في تأسيس نموذج قيادي أخلاقي يتجاوز منطق الثأر والانتقام إلى فضاء التسامح والمصالحة، ويكفي أن نستحضر مشهد فتح مكة، حيث امتلك-صلى الله عليه وسلم- القوة الكاملة للقصاص ممن آذوه وأخرجوه، ولكنه أعلن: “يوم مرحمة لا يوم ملحمة”، وقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. تلك اللحظة التاريخية لم تكن تنازلًا عن الحق، بقدر ما كانت تأسيسًا لمرحلة جديدة من البناء الاجتماعي والسياسي القائم على المصالحة لا على الإقصاء.
ويبرز التسامح المحمدي أيضًا في معاملته لأسرى بدر، حيث زاوج بين مقتضيات العدل ومقتضيات الرحمة؛ فمنهم من فُدي، ومنهم من أطلق بلا مقابل، ليؤسس بذلك قاعدة إنسانية في إدارة الصراع، تراعي الكرامة حتى في لحظات الحرب، أما في الحروب الأخرى، فقد نهى بصراحة عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، وجعل الحرب آخر الخيارات لا أولها، مقرونة بضوابط أخلاقية صارمة.
الإسلام، في جوهره، لا ينظر إلى العفو باعتباره حالة استثنائية أو لحظة ضعف، بل كقوة أخلاقية قادرة على تفكيك دوائر العنف، وتأسيس مجتمع متماسك يستند إلى العدل الرحب لا إلى الانتقام الضيق، وهذا البعد يتأكد في قوله تعالى: “ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور”، وفي توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن تكون رحيمة بالخلق كافة، لا تميز بين مؤمن وغيره في دائرة الرحمة العامة، إذ قال: “الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله”.
وفي سياقنا المعاصر، حيث تتنازع الأمم مصالح متضاربة، وتطغى الأثرة على الإيثار، وحيث تحل الكراهية محل المحبة، تبدو اختيار هذه القيم ضرورة استراتيجية وحضارية. فالتسامح ليس مجرد سلوك شخصي، بل هو أداة لإعادة بناء المجتمعات، ووسيلة لتحقيق الاستقرار والتنمية، وشرط لتجاوز الصدام الحضاري نحو شراكة إنسانية أرحب.
إن إعادة إحياء هذه المبادئ لا تقتصر على ترديد النصوص، بل تقتضي مشروعًا متكاملًا لتجديد الوعي الديني والاجتماعي والسياسي، يعيد للعفو مكانته كقيمة فاعلة في العلاقات الدولية، وللرحمة دورها في صياغة السياسات، وللمساواة روحها في بنية المجتمعات، وآن للعالم، وهو يترنح بين نزعات الاستعلاء وموجات العنف، أن يكتشف أن رسالة الإسلام ليست ماضيًا نتغنى به، بل مستقبلًا يمكن أن نبنيه إن اخترنا جوهره.