الحاجة إلى تنمية الشعور بالعزة والكرامة

من وحي شهر الربيع
24 سبتمبر, 2025
من وحي شهر الربيع
24 سبتمبر, 2025

الحاجة إلى تنمية الشعور بالعزة والكرامة

د. محمد وثيق الندوي
إن دراسة الوضع الراهن، والمشهد العالمي، يشير إلى وجود خطة خطيرة لتغيير النظام في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، وما يجري في مختلف أنحاء العالم من الصراعات بين القوى العالمية، وثورات شعبية وشبابية في عدد من بلدان العالم، يقوي هذا الشعور.
هنا “مخطط أمريكي – صهيوني” يرمي إلى حماية الكيان الصهيوني، وضمان توسُّعه وهيمنته المطلقة، دون أي تهديد أو رادع حقيقي من الدول المجاورة، فإن ما حدث في السنوات الماضية في عدد من الدول العربية والإسلامية كان مخطَّطًا بغاية من الدقة، لتوفير الحماية للكيان الصهيوني، وكسر القوة التي كان يخشى أن تشكل خطرًا له، فتفاديًا لهذا الخطر المزعوم – كما كتب الدكتور حمود النوفلي في مقال له أخير-:”اُتِّخِذَت الإجراءات العدوانية لتدمير العراق وجيشه الذي كان يُعدّ من أقوى الجيوش في المنطقة، ثم ليبيا التي كانت ترفض الصهيونية، وتملك ترسانة من الأسلحة، وبعد ليبيا تمَّ تفكيك بلد السودان الذي يمثل عمقًا استراتيجيًا للعالم العربي بموارده الزراعية الهائلة، وقوته البشرية، وجيشه الذي يحمل عقيدة إسلامية، فقُسِّم السودان إلى دولتين، ثم جرى تحريك ثورة لإسقاط نظامه، بعد اكتشاف أن كثيرًا من الأسلحة التي تصل إلى غزة كانت تمرُّ عبر السودان، ولم يتوقف الأمر عند إسقاط النظام، بل تمَّ الضغط على النظام الجديد للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ومع ذلك، لم يكن هذا كافيًا، فوجود قيادات داخل الجيش بعقيدة مناهضة للصهيونية شكّل خطرًا، فتمَّ إلصاق تهمة “التعاون مع إيران” به، ليبدأ سيناريو الحرب الداخلية، ويُغرق السودان في صراع دموي يستنزف قوته ويشلّ دوره العربي والإسلامي، وكذلك استهدف الجيش اليمني الذي كان يُعدُّ من الجيوش العربية القليلة التي تمثل تهديدًا حقيقيًا على المدى الاستراتيجي، جيش يتميز بالشجاعة، والبأس الشديد، والقدرة على القتال في تضاريس صعبة، فضلًا عن موقع اليمن الجغرافي الحساس المطل على أهم الممرَّات البحرية، لذلك جرى التآمر عليه بالتعاون مع القوى الإقليمية، وتمَّ تفكيكه وإشعال حرب أهلية دامية مستمرة منذ أكثر من 12 عامًا، وإن ما وقع في سوريا فليس إلا حلقة من حلقات المخطط الأمريكي الصهيوني، فتمَّت التصفية الممنهجة لكل جيش عربي قوي ورافض للتطبيع، وتحويل الجيوش من أدوات سيادة إلى أدوات قمع داخلي، ومن حماة للحدود إلى أدوات تنفيذ سياسات التبعية، ويبقى الكيان الصهيوني هو المستفيد الوحيد، بينما شعوب الأمة تدفع الثمن دمًا وتشريدًا وفقرًا وتخلفًا ممنهجًا”.
وهنا بوادر لتفكيك القوة العسكرية في مصر وتركيا وإيران وباكستان، لا قدر الله ذلك، وقال النوفلي ردًّاعلى سؤال: لماذا تشارك أنظمة في المنظقة في المخطط الأمريكي الصهيوني وهي تعلم خطورته؟: ” لقد وُعِدوا بأنهم سيكونون “شُرطي المنطقة” بعد إزاحة كل الجيوش المنافسة، صدّقوا الوهم، وظنوا أن واشنطن ستمنحهم الهيمنة في المنطقة، بينما الحقيقة أن “الشرطي الفعلي” الذي يجري تأهيله وإعداده منذ عقود هو الكيان الصهيوني، الذراع الأمريكي الحقيقي، والدولة التي خُلقت لهذا الدور”.
ويُخشى أن تثور حرب عالمية ثالثة، فقد أرسلت أمريكا غواصتين نوويتين إلى روسيا، وكذلك تتحرك أبراج وأسراب طائرات أمريكية في الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى استراتيجية، مما تثير تساؤلات حول دعوى ترامب بالسعي لإنهاء الحرب، وفي جانب آخر تجري مناورات بحرية روسية ضخمة في المحيط الهادي والمتجمد وبحري البلطيق وقزوين، في ظل استمرار الدول الغربية في الحشد والتصعيد العسكري ضد روسيا مع تسعير نيران الصراع الأوكراني كجبهة متقدمة للصراع مع روسيا التي تساندها الصين، القوة الصاعدة المنافسة للقوة العالمية.
وإن غطرسة إسرائيل وحاضنتها أمريكا، وموقف دول المنطقة، تثير مخاوف، وإن الخطة التي قدمها ترامب للسلام في الشرق الأوسط، ولتهدئة الصراع وإعادة إعمار غزة المدمرة، محاولة لتكريس الهيمنة الإسرائيلية، فَوِفْقَ تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية وصف توماس فريدمان خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط: بأنها “محاولة طموحة لتحويل مأزق الحرب إلى فرصة لإعادة ترتيب المنطقة: ليس فقط لوضع إطار جديد لحل الأزمة، بل أيضًا لدفع موجة تطبيع إقليمي تشمل السعودية ولبنان وسوريا وربما العراق، وقد تمتد آثارها إلى إيران إذا ما نجحت”.
وكتبت صحيفة “اندبندنت” البريطانية أن خطة ترامب للسلام في غزة خدعة استعمارية جديدة، وأضافت الصحيفة أن: “الحقيقة الاستعمارية هي أن إسرائيل والولايات المتحدة قد وضعتا خطة ماكرة لتفويض إسرائيل لمواصلة سيطرتها على قطاع غزة أو احتلاله، تحت قيادة حاكم، هو توني بلير (وهو رجل مكروه للغاية في الشرق الأوسط)، وملك، هو دونالد ترامب، الذي سيدير غزة”.
فيتجلى من قراءة الأحداث المتسارعة في المنطقة وما يجري في غزة من إبادة وتجويع وتطويق وتدمير، وغارات على دول المنطقة، أن كل ذلك جزء من الخطة الأمريكية الصهيونية.
ورغم الاحتجاجات الحاشدة والمظاهرات العارمة حتى في الدول الأوروبية والغربية، وتحرُّك الضمير الإنساني لفكِّ حصار غزة، ودعم سكانها المضطهدين، لا تنتهي إسرائيل من غيِّها وعدوانها؛ بل هي تحبط كل محاولة لإرسال المعونات إلى الذين يتعرضون للتجويع والموت، كما يقع مع أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار عن غزة، وقد سيطرت إسرائيل على عشرات السفن المشاركة في أسطول الصمود العالمي “فورتيلا” واعتقلت عشرات الناشطين الذين كانوا على متن تلك السفن، وإن إجراءات إسرائيل الوحشية الهمجية لا تحرك أمريكا التي تدعي صيانة حقوق الإنسان، وإنهاء الحروب، وإقرار الأمن والسلام في العالم.
وأما منظمة الأمم المتحدة التي أنشئت في 24/أكتوبر عام 1945م بعد الحرب العالمية الثانية، لأهداف إنسانية سامية، كان في مقدمتها الحفاظ على السلام والأمن في العالم، وحماية حقوق الإنسان، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتعزيز التنمية المستدامة، ودعم القانون الدولي…، فقد أصبحت أخيرًا معطلة مشلولة، وتحولت إلى منبر لإلقاء كلمات وخطب، وإصدار بيانات تنديد واستنكار، وحسب، وفقدت صلاحيتها لإصدار أوامر، أو اتخاذ تدابير وقائية، وتتلاعب بها القوى التي تتمتع بقوة نقض قرارات المنظمة الأممية، بل أصبحت حكرًا لأمريكا فهي تستخدمها كيف تشاء، وفيما تشاء.
ففي هذا الوضع لابُدَّ من إنقاذ منظمة الأمم المتحدة-التي أدت دورها في إقرار الأمن، وتسوية النزاعات، ووضع حد للصراعات في الماضي- من عجزها، وإحياء دورها المطلوب من جديد، لكيلا تصبح القوى الكبرى حرة في اتخاذ إجراءاتها وفق أهوائها، وتصبح الدول الضعيفة والصغيرة بمثابة الأيتام كغزة التي تتعرض من سنتين للتجويع والتدمير والإبادة، فإن تعطُّل الأمم المتحدة وتبعيتها للدول الكبرى –كما كتب الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي في كتابه “صور وأوضاع”-” هو السبب الرئيسي لاستمرار الاعتداءات في مختلف أنحاء العالم، وإذا لم يوضع حدٌّ لهذا الوضع، فإن هذه الصراعات الإقليمية ستحوِّل العالم إلى حرب عالمية ثالثة، تكلف الإنسانية أكثر مما كلفته الحربان السابقتان لتقدُّم الصناعة العسكرية واختراع أسلحة أكثر تدميراً”.
ويحتاج الوضع الراهن إلى تكوين جيش دولي موحد من أجل إنقاذ غزة، كما قال الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين دعا دول العالم إلى توحيد الجيوش من أجل تحرير فلسطين، ووجه انتقادات حادة لأمريكا وحلف شمال الأطلسي.
ويتطلب الوضع أن يكون العالم الإسلامي وحدة بانتمائه إلى الإسلام، وأن يشعر الحكام والقادة السياسيون والمفكرون والعلماء والدعاة بمسؤليتهم تجاه الأمة، وإذا وجد هذا الشعور على أساس الأخوة الإسلامية والانتماء إلى الإسلام، وتجسَّد بكامل مظاهرها، فإن مشاكل الأمة الإسلامية تنحلُّ، وتظهر قوة عالمية جديدة، لا تعالج مشاكلها وحدها؛ بل تحل مشكلات الشعوب الأخرى أيضًا، وهي حاجة اليوم، واقتضاء الوضع، كما أكد بعض القادة على إنشاء جيش إسلامي موحد لردع العدوان الإسرائيلي، والحفاظ على سيادة الدول الإسلامية والعربية، وكذلك يقتضي الوضع التعامُلَ مع التطوّرات على الساحة الدولية بواقعية وحنكة وجدية، مع الالتزام بالوحدة الإسلامية ومصالح الأمة وقضاياها، وفي مقدمتها وقف الإبادة والتدمير في غزة ورفع المعاناة عن أهلها، وهذا لا يمكن بالنيات والقرارات وحدها أو العاطفة والكلمات المجلجلة للإدانة والشجب، بل لابد لتحقُّق ذلك من الجمع بين العقل والحكمة في اتخاذ القرارات والاستراتيجية، والقوة الرادعة العسكرية والسياسية، والشعور بالعزة والكرامة وعدم الرضا بما تفرض على الأمة من تنازلات وإملاءات، كما أشار إلى ذلك الشاعر العربي عمرو بن براقة الهمداني:
مَتَـى تَجْـمَعِ الْقَلْبَ الذَّكِيَّ وَصارِماً

وَأَنْفـاً حَمِـيّـاً تَجْـتَـنِبْكَ الْمَظالِمُ