الهجرة ميلاد جديد للروح
25 سبتمبر, 2025كن في الدنيا كأنك غريب
محمد خالد الباندوي الندوي
أخي العزيز!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن نفس الإنسان – أيها الأخ – تابعة لإرادته، فهي لا تشتاق إلى ما عوَد عليه صاحبها من العادات ولا تكره إلا مما أجبرها على كراهته من السلوكيات،فهي رهين أمره، وطوع إشارته لا تأتي إلا بما يرضى به صاحبها، ولا تخالفه في أمره ونهيه، وهذا ما أشار إليه الشاعر الحكيم حينما قال:
النفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
فشبه الشاعر – في هذا البيت – النفس الإنسانية بطفل مدلل، إن أنت دللته واستجبت لكل نزواته، فلن يشبع، بل سيزداد صراخًا وطلبًا، وإن عوّدته على الصبر والرضا، استقام وسكن. ولهذا قال الشاعر: النفس راغبة إذا رغبتها، وإذا تُردّ إلى قليل تقنع،أي أن النفس تتشكل بما نعوَدها نحن، فإن غذّيناها بالطمع والتطلع إلى كل جديد، لم تهدأ لحظة، وإن سقيناها بزاد القناعة، اكتفت بالقليل ورأت فيه غنىً وراحة.
ولعلّ حياتنا اليومية خير شاهد على ذلك، فها هو الشاب الذي لا يرضى إلا بأحدث هاتف نزل إلى الأسواق، يظل مضطربًا، لا يعرف إلى الطمأنينة سبيلا، لأنه كلما اشترى هاتفًا جاء بعده آخر يعجبه بصره وتعشقه عينه وتحدث في نفسه الرغبة من جديد. بينما زميله الذي تعود أن يرضى بما عنده، يستخدم هاتفه بطمأنينة، لا يشغله التفكير في الجديد عن استثمار وقته وجهده فيما ينفعه.
وكم من شاب لا يجد لذة إلا في المطاعم الفاخرة والأكلات الغالية، فإذا لم يجدها تكدّر عيشه وتعكر صفو حياته، وكأن النعمة قد زالت عنه وذهب بهاء العيش وفسد سروره.
كما أن هناك الكثير ممن ألف البساطة في العيش،فأصبحوا يجدون في لقيمات البيت المتواضعة لذة ونعمة تغنيه عن كل مائدة مترفة.
وقد جسد هذا المعني الصحابة رضي الله عنهم-فإنهم لما فتحوا بلادًا كثيرة وانهالت عليهم الغنائم، ورأوا من كثرة النعيم ما لم يروه من قبل. ومع ذلك ظلّوا على ما عوّدوا أنفسهم عليه من البساطة. فقد دخل رجل على الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فرآه يعيش في بيت متواضع ليس فيه إلا بساط قديم، فقال له متعجبًا: يا أبا ذر، أين متاعك؟ فأجابه أبو ذر في بساطة: إن لنا بيتًا نرسل إليه صالح متاعنا.فقال الرجل: ولكن لا بد لك مما ترى!
فقال أبو ذر: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، وإنما نحن فيه على سبيل العبور.
فكان يقصد بالمنزل: الدنيا، وبالبيت الذي يرسل إليه متاعه: الآخرة.
بهذا الموقف علّم أبو ذر أن القناعة ليست فقرًا ولا حرمانًا، بل هي وعي عميق بأن الدنيا عابرة، وأن النفس إذا عوّدتها على الرضا بالقليل، سلمت من الطمع، وصارت أغنى من أصحاب الأموال الكثيرة.
وإن القناعة – أيها لأخ – ليست حرمانًا من متع الحياة، وإنما هي ضبط للشهوات حتى لا تتحكم في صاحبها، وهي غنىً معنوي يغني صاحبه وإن قلّ ماله، وراحة بال لا يعرفها من يطارد سراب الرغبات. فإذا أردت السعادة حقًّا، فقم بترويض نفسك على أن ترى الكثير في القليل، وأن تجعل الرضا عادة، لا انتظارًا لشيء يأتي من الخارج.