منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (14)

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (13)
6 أكتوبر, 2022
الشيخ أبو الجلال الندوي
14 نوفمبر, 2022

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (14)

(14)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي

أشاد فيه الشيخ الندوي أولا بالمملكة العربية العربية ومكانتها السامية في الإسلام ثم صرح بما يعقد بها المسلمون في العالم من الآمال، بجانب ذكر اتجاهها الخاطئ الذي جرت عليه المملكة أخيرًا، وسلكت في عنان من سبقها من الحكومات والدول، وبيّن لها بعض ما يصلح أحوالها ويسدد خطاها.

ثم سافر الشيخ الندوي إلى الجزيرة العربية سنة1951م وطالت إقامته في الربوع المقدسة فشاهد أن الجزيرة العربية تغيرت في كثير من عاداتها وتقاليدها، وقد سيطرت عليها الحضارة الغربية وجثمت على صدرها، حتى بهرت العيون والأبصار، فآلمه ذاك المنظر المؤلم، وأطار نومه، وأفزعته هذه الظاهرة، رأى الشيخ الندوي من واجبه – كمسلم مخلص لهذه البلاد ومستقبله، وكدارس للتاريخ وحضارته وطبائع الأمم والحضارات- أن يلفت نظر الذين يملكون زمام الأمور إلى مسؤوليتهم، وأن يقوم باتصال ولي العهد الملكي ويذكر له ما يصلح حالة المملكة عله يجد عنده أذنا صاغية يستمع إلى نصيحته، وصادف أن قدم في تلك الأيام أمير المدينة المنورة فطلب الشيخ مقابلة له في الخلوة كما طلب منه أن يسمح له بالحديث الخاص في جلسة خاصة لا يحضرها غيره ولا مرافقه، فأذن له بقلب منشرح، وقبل طلبه، وقدأعد الشيخ الندوي مكتوبًا يشتمل على النصح والتذكير، وقدمه إلى حضرة الأمير، ثم جري – في ضوء ذلك المكتوب – في الحديث عن الأخطار التي تحيط بالجزيرة العربية وتكاد تدمرها من داخلها فأوضح في المكتوب  بعض النقاط وأزال بعض الشبهات، استمع الأمير إلى كلامه في صمت وصبر من غير أن يقاطعه أو يبدي رأيه قبل أن يتم الحديث لأنه كان يملك عقلا مفتوحا وقلبا واسعا،وقد زرع هذا الاتصال بذورا طيبة صالحة وأثمرت جهوده المباركة وظهرت نتائجها الحسنة في الأيام المقبلة.

كان من دأب الشيخ الندوي أنه يستعرض أحوال العالم الإسلامي بما فيه الجزيرة العربية، ويزود الحكام والسلاطين – إذا مست الحاجة – بتوجيهات مفيدة وإرشادات صالحة، وجه الشيخ الندوي كعادتها تلك  إلى الأمير فيصل رسالة توجيهية أخرى مفعمة بحب الجزيرة العربية وحضارتها ومتدفقة باالعاطفة الإيمانية والحمية الإسلامية، فقد نوه فيها أولا بما تملك الجزيرة العربية من المكانة السامية في قلوب المسلمين في مختلف أقطار العالم وما لعبت من دورملموس في مختلف أدوار التاريخ بجانب لفت عنايته إلى ما تبنت من الاتجاه الخاطئ أخيرًا فكتب:

“وقد يعتقد بعض الناس أن في هذا التوسع والانطلاق في مواد التسلية وتقليد الأقطار المتمدنة التي سارت وراء الغرب في أساليب التعليم وبرامج التعليم، وتطبيق مظاهر الحياة الغربية مما لا تقدم ولا تؤخر في نهضة البلاد وقوتها، ترفيها للشعب وتحقيقا لمطالبه وعلاجا للتذمر وشاغلا له عن التفكير الخاطئ وتقدما بالبلاد- ومع الأسف والاعتذار – لا أوافق على ذلك في ضوء التجربة والتاريخ، فليس هذا هو العلاج، وماء البحر المالح الأجاج لا يزيد الشارب إلا عطشا “.

(كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب :43)

كان الملك فيصل يقدر العلم والعلماء، وقد علم أن الشيخ الندوي مخلص في توجيه النصيحة لا يبتغي منه أجرًا ولا يطلب سؤلا، وأنه يتأسى في دعوته بأسوة الأنبياء والمرسلين، ولسان حاله ينطق: “وما أسألكم عليه من أجر ” ووجده في رسائله الموجهة إليه بصيرًا بالأوضاع عالما بالأمور فقدره  وأحله عنده مكانًا ساميًا، واستفاد من آرائه وتوجيهاته وتأثر بدعوته الإسلامية كثيرًا، حتى اصطبغ عقله بالفكرة الإسلامية ثم لما تقلد زمام الإمارة 3/نوفمبر سنة 1964م حاول استرجاع ما تكاد تفقد الجزيرة العربية من مكانة القيادة في العالم الإسلامي، وكانت تلك الفترة من الزمان محدقة بالأخطار، والأعداء ترصد لها بالمرصاد، على الرغم من ذلك كله تغلب الأمير فيصل علي الظروف المخالفة في مدة قصيرة، وخيب المخططات العدائية والمؤمرات الإجرامية، وحاز الثقة لدى الجمهور، وملك الإعجاب، وبرز إلى العالم خادمًا للحرمين الشريفين ورائدًا للتضامن الإسلامي، وحاديًا على القضايا الإسلامية كلها في قوة ولباقة وألمعية، وهو الذي قام بتفعيل “رابطة العالم الإسلامي” وأسندها بتأييده وعطفه الملكي وحنانه الأبوي ونفع بها المسلمين في العالم.

كان الشيخ الندوي يعقد بالأمير فيصل بن عبد العزيز كثيرًا من الآمال، ويرجو منه مصالح كثيرة للأمة الإسلامية، وكانت بينهما صلات أخوية إيمانية، فظل يفضي إليه بذات صدره ومكنونات ضميره طول ولاية عهده وبعد أن أصبح ملكا للمملكة، ويشير عليه بما يراه أنفع للبلاد العربية وأصلح للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وقد أصبح الأمير فيصل -بصلابة رأيه وعزمه الأكيد وحكمته الإيمانية وقلبه المفعم بحب الإسلام وعقله المفتوح -أكبر خطر على مخططات الأعداء ومؤامراتهم، حتى تخوفت أوربا وأمريكا على نفسها، وظن الأعداء فيه الظنون أن لو طالت له مدة الحكم لخيب آمال الأعداء وجعل مخططاتهم فاشلة، وذلك مما لا يطيقون عليه صبرًا، فتربصوا له الدوائر وحاولوا إزالة هذا السد المنيع، فأعدوا لتحقيق أمنيتهم الماكرة رجلا من أسرتهم هجم عليه فقتله على حين غفلة منه، ثم قام الإعلام الغربي بتبرير جريمته النكراء بأن القاتل كان قد خولط في عقله، وأصابه الجنون ففعل ما فعل في حالة جنونه، وكان من الواقع أن الرجل أعده الأعداء -بكل فطانة ومكر- ليحقق لهم ما أرادوا من توسيع النفوذ الأجنبي ومخططاتهم الخطيرة المدمرة.

وكانت وفاته ثلمة كبيرة وخسارة لا تعوض،وقد خمدت شعلة رجاء الأمة، وطبعا انقطع خيط أمل الشيخ الندوي الذي يرى فيه أكبر عون لمستقبل المسلمين،وقد أثرت وفاته على نفسه.

تولى زمام البلد بعده أخوه الملك خالد بن عبد العزيز، وعهد إلى الأمير فهد بن عبد العزيز منصب ولي العهد، وفي تلك الفترة كانت المملكة قد قطعت أشواطا بعيدة في المدنية والرفاهية وارتفاع مستوي المعيشة وتدفق الثروات، وتبع ذلك ما يتبعه دائما من ظواهر طبيعية نفسية،وأحاط بها بحر المادية الهائج المائج من كل جانب، وتفشت طبعا كثير من الأدواء الخلقية،وقد سافر الشيخ الندوي إلى مدينة الرياض،وأفزع تلك الظاهرة التي شاهدها في المملكة، وأراد أن يبث شجونه وأحزانه إلى الملك خالد الذي يملك زمام الأمور، وذكر له ما يجب لإقامة السدود والحواجز أمام السيل العرم للحضارة الأجنبية وماديتها الرعناء، وكتب -علاوة على ذلك- رسالة توجيهية مؤثرة إلى ولي العهد، وأرشده إلى الأخطار الخارجية التي تحيط بالجزيرة العربية مهد الإسلام ومحط الوحي، كما لفت عنايته الكريمة إلى الأخطار الداخلية، وذلك كله في أسلوبه الناصح المخلص المفعم بالحب المراعي مكانة المخاطب السامية، يقول :

” فقد كنت حريصًا على لقاء سموكم، والحديث معكم في جلسة خاصة هادئة، مع معرفتي للمسئوليات الضخمة التي تضطلعون بها، وإنما جرّأني على ذلك ما كان عوّدني عليه أخوكم العظيم جلالة الملك فيصل الشهيد من سماحه لي للحديث الخاص كلما طلبته، وحسن استماعه والصبر، وما كان أولاني به من ثقة، وآثرت أن أقيد ما أحب أن أضعه بين يدي سموكم مما يمليه عليّ الإخلاص للإسلام والمسلمين، ولهذه البلاد العزيزة المقدسة، فأعتمد على هذه الرسالة الخاصة رجاء أن تحظى منكم بلفتة كريمة، وإن كانت الرسالة لا تنوب عن حديث القلب مع القلب، وبثّ الشجون عن طريق العيون، ولعل الله يمنّ عليّ بلقاء آخر.

وأرجو أن تسمحوا لي بصراحة التزامتها في أحاديثي ورسائلي الخاصة لجلالة الملك الراحل رحمة الله عليه، والتي يقتضيها الإخلاص لهذه البلاد المقدسة، والأسرة الملكية الكريمة التي اختارها الله أخيرًا لخدمة الحرمين الشريفين، وخدمة الإسلام، والتي يقتضيها الواقع الدقيق الذي تعيشه هذه البلاد والأمة الإسلامية”.

(كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب:57-58 )

ثم يلفت عنايته إلى الخطر الحقيقي فيقول:

“أما الخطر الداخلي فهو عندي أعظم من الخطر الخارجي، فبكل صراحة يا سمو الأمير! إن البلاد اليوم سائرة في طريق الانتحار تجتاح الشعب اليوم موجتان عارمتان، إحداهما موجة النهامة بالمال واستثماره والزيادة فيه، والوصول إليه من كل طريق شرعي وغير شرعي، نسيت معها جميع القيم الدينية والخلقية واحترام الإنسانية، ومصالح المقيمين والوافدين من أنحاء العالم الإسلامي، نستطيع أن نعبر عن هذه الظاهرة بهستيريا المادية والتكاثر، نشأت عنها مشكلات طريفة معقدة أصبحت منها البلاد في خطر.

والموجة الثانية هي الشغف الزائد بطرق التسلية والمتعة، فالبلاد تسبح اليوم في فيض من الأغاني وأنواع اللهو والتمتع، والتهرّب من كل ما يشقّ على النفس ويطلب الصبر وعلوّ الهمة، وبذلك يتجرّد الشعب العربي المسلم الذي عرف في التاريخ بالتقشف والبساطة والفروسية التي استطاع بها أن يضطلع بأمانة الإسلام ويتغلب به على الشعوب التي أنهكتها أدواء المدنية والترف عن كل أوصاف الرجولة والفتوة، وإذا استمرت هذه الحال مدة فإنه سينشأ جيل مائع رقيق متخنث لا يستطيع أن يقاوم أيّ تحدّ من الخارج أو الداخل، ويحفظ سلامة البلاد فضلاً عن أن يبلغ رسالة الإسلام، ويكون قدوة صالحة وأستاذًا موجهًا لمن يفد إلى هذه البلاد للحج من جميع أنحاء العالم الإسلامي”.

(كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب:59-60)

×