حضارة إبراهيمية محمدية
4 نوفمبر, 2024أمراض المجتمع وعلاجها (4)
4 نوفمبر, 2024رحمة للعالمين
عبد الله الحسني الندوي رحمه الله
الإنسان ضعيف بطبيعته وخلقته، ولكنه يحب القوة ويسعى إليها ليصبح قويًا، فإذا ركن إليها، وأوى إلى ركن شديد وحصل على قوة ما، نسي ضعفه الطبيعي؛ بل تجبَّر وطغى وجعل يظلم الضعيف ويسلب حقه، بله أن يؤديه، فكأنه خاصم فطرته وأصله الذي سيرجع إليه في مدة لم تكن بعيدة عنه، هذا هو الإنسان الذي طغى وبغى ونسي الجبار الأعلى، ونسي المبتدأ والمنتهى، ولكن الإنسان الذي لم ينحرف عن فطرته ولم يناو طبيعته، بل بقيت بقية من فطرته، تذكر ضعفه وترحم على الضعيف، وكلما كان الإنسان كاملاً تذكر فطرته وإن بلغ شأواً بعيداً في القوة، وذروة شامخة من الكمال، بل كلما ازداد كمالاً وقوة ازداد ترحماً على الإنسانية الضعيفة، وتعطفاً على الطبقات الضعيفة وتعاوناً مع المحاويج إليه في الأمور المختلفة.
رسول الإنسانية، الرحمة المهداة، عليه أزكى التحيات وأعطر التسليمات وأفضل الصلوات والبركات، كان قد بلغ درجة أعلى من القوة والشوكة، والرعب والهيبة، لأنه نصر بالرعب، قد ظهر في فتح مكة بمعنى الكلمة، حتى رآه وشاهده كل من له عينان، فلم ينس عبديته، واستكانته عند ربه، فلم يدخل كفاتح من الفاتحين، بل دخل كعبد خاشع متواضع، ولم ينتصر ولم ينتقم كالملوك والسلاطين بل صفح وعفا كالأخوة المتحالفين المؤتلفين المتحابين، وأعلن لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
قيل في ذلك اليوم، واليوم يوم الملحمة، فقال رداً على هذه العقلية التي تنشأ في تاريخ الفتوحات والانتصارات اليوم يوم المرحمة.
قبل اليوم تستحل الكعبة، فقال اليوم تعظم الكعبة وتشرف، التئم بها جراحات القلوب كما صان بها قداسة البيت، استمال بها قلوب الأعداء، كما عظم بها وطهر هذا المركز الأساسي للتوحيد الذي صار أكبر مركز للأصنام والشرك.
فهذا هو الإنسان الكامل الذي بلغ من الإنسانية كمالها وقمتها لأنه ولد على الإنسانية، ونشأ وترعرع على الإنسانية، وبذل جهده في سبيل الإنسانية.
إنه خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الله، ويهديهم إلى سبيل الرشاد ولكنهم عاملوا معه معاملة قاسية ونالوا منه واغروا به سفهاءهم يسبونه ويدفعونه من قريتهم حتى أدموه فجاءه الملك للجبال، ليستأذن منه لإطباق الجبلين عليهم، ولكنه أبى وترجى من أولادهم أن يخرج منهم من يلبى دعوته، ويؤازره، فإنه رغم الحصول على القوة التي يستطيع بها أن يقضي عليهم، بل على آخرهم، ترحم ونسي ما آذوه، جاء رجل يستنصر في حقه الذي سلبه أبو جهل فسكتت مكة لمكانة أبي جهل فلم يلب أحد دعوته، ولم يقم له أحد، فأشير إلى هذا الإنسان الكامل وطلب منه النجدة والعون، هو الذي أعلن بعد، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فقام له يذهب معه إلى أبي جهل – الذي كان من أعدى عدوله – ساقه اعتماده على الله وإيمانه، فقرع بابه وأمره أن يؤدى إليه حقه فأدى حقه كأنه بذج بين فكى أسد، فشكر هذا الرجل جهده وصنيعه معه.
فتوسعت دائرة رحمته وإنسانيته يومًا فيومًا حتى شملت الأفراد والجماعات والطبقات الإنسانية كلها، حتى الطبقات التي لا تعبأ بها في أكثر الأحيان.
أن امرأة سوداء تقم المسجد ففقدها يومًا فسأل عنها فقيل إنها ماتت قال دلوني على قبرها فذهب وصلى عليها ودعا لها، فإنه لم ينس كما ينسى أعيان الناس ووجوههم هؤلاء المساكين المنحطين ولا يكترثون بهم، فقد وسع الناس خلقه وبسطه فصار لهم كالأب، حتى إن كانت أمة من إماء المدينة لتأخذ بيده وتذهب به.
فكلمه رجل فأخذته الرعدة فقال هون عليك، فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق قاطبة على الضعفاء يوصى أصحابه بالرحمة والرفق واللين مع الوالدين إذا شاخا، ومع النساء لأنهن القوارير، مع الأيتام لأنهم أحوج الناس إليه، مع المساكين والفقراء لأنهم هم المحاويج، مع البهائم لأن في كل كبد رطبة أجرًا، مع الأجانب من غير المسلمين لأنهم لا يعلمون، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم ابغوني في الضعفاء، فإذن ليس معنى القوة أن يكون فرعونًا إذا بلغ إلى السلطة وأن يكون قارونًا إذا جمع المال، وأن يكون هامانًا إذا نال الوزارة وأن يكون أبا جهل إذا حصل على الجاه، وأن يكون ابن أبي إذا حرم عن التاج.
إنما معناها أن تعاون مع الضعفاء، وأن ترد الأمانات والحقوق إلى أهلها، وأن تأخذ على يدي الظالم وترشده إلى الحق والصواب، وأن لا تستغل استغلالاً لا يلائم الفطرة الإنسانية، وأن لا تكون منافقة في الأعمال والأقوال والأحوال، لإفساد المجتمعات الإنسانية ونشر الفوضوية فيها.
الإنسان الكامل إذا قوي يكون سليمان وداود عليهما السلام وموسى ويوسف عليهما السلام.
الإنسان الكامل إذا قوي يكون سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم يعامل الضعفاء معاملة تناسب فطرته وطبيعته، ويعامل الآخرين ما يناسب فطرتهم وطبيعتهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاتمًا للنبيين لا يأتي نبي بعده فلذلك بين للناس بأقواله وأفعاله وتقريراته كل ما يحتاج الإنسان إليه إلى يوم القيامة، وترك له أسوة كاملة له، وحتى لا يأكل القوى الضعيف، كما يأكل الحوت الكبير الحوت الصغير، فالإنسان نجاحه منوط بمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم والإنسانية البائسة الضعيفة لا تجد راحتها المفقودة، وحقها المسلوب إلا به صلوات الله وسلامه عليه كثيرًا كثيرًا.