مفهوم العبادة في الأذهان اليوم

الرحمة المهداة
23 سبتمبر, 2024

مفهوم العبادة في الأذهان اليوم

جعفر مسعود الحسني الندوي

الخطأ الذي نقع فيه منذ فترة طويلة،هو أننا نعيش بدون هدف، وبدون تخطيط، وبدون إعداد للأيام المقبلة، لا يهمنا إلا أن نأكل ونشرب، ونلبس ونتجول، ونستمتع بهذه الحياة التي هي ثوان وساعات تنقضي بسرعة، وتقرِّبنا إلى أجل مسمى.

إن تحديد الهدف هو أول خطوة للتقدُّم إلى الأمام، وأول درج لسُلَّم الرقي والوصول إلى الرفعة، إذا لم يتضح الهدف لم تتضح الخطى الموصلة إلى ذلك الهدف، فما هو الهدف الذي ينبغي أن نحققه في هذه الأيام، وما هو المطلوب منا في هذه الفترة، ألا هو بعث الحياة من جديد في هذه الأمة، واستعادة مكانتها الأولى التي فقدتها، ولا تشعر بفقدانها ولا يخطر لها ببال ما كان لها من عز وشرف وكرامة وصولة وجولة وريادة في الأيام الماضية حين كانت تؤدي واجبها وتحقق هدفها،ولا تعيش إلا لربها ووفقًا لأوامره.

يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى:

“لقد غفلت هذه الأمة قرنًا أو قرنين أو ثلاثة قرون، قل ما شئت، غفلت عن مقتضيات دينها، وتغيرت مفاهيم الدين في حسها بدءًا من كلمة “لا إله إلا الله”، ومرورًا بكل المفاهيم الأساسية في هذا الدين حتى تغير مفهوم العبادة في الأذهان.

إن مفهوم العبادة في الأجيال المتأخرة قد انحصر في الشعائر التعبدية، ثم عاد، فانحصر مرة أخرى، فصار أداة آلية للشعائر التعبدية”.

كان مفهوم العبادة في أذهان الأجيال الأولى يختلف عن مفهوم العبادة في أذهان الأجيال المتأخرة، كان مفهوم العبادة فيما مضى من الزمن يشمل كل نشاط للإنسان، وكل عمل يقوم به في حياته، وكل حرفة يختارها لنفسه، فالنية والحسبة والالتزام بالشريعة هي التي تجعل كل عمل يقوم به، عبادة يجزى عنها، أليس المعلم في تعليمه عابدًا؟ أليس الطالب في تعلُّمه متعبدًا؟ بلى، بشرط أن يكون ملتزمًا بأوامر الله عز وجل، ويؤدِّي ما عليه من الحقوق ولم يقصر فيما كُلِّفَ به من العمل.

التاجر في تجارته عابد ما لم يغش ولم يخدع ولم يدلس على الناس ويبتغي بها وجه الله، والزوج في التعامل مع زوجته عابد، والجار في الإحسان إلى جيرانه عابد، والقريب في صلة رحم أقاربه عابد، والداعي في دعوته عابد، والماشي في الشوارع والطرقات بغضه لبصره عابد، والمبتسم في وجه أخيه عابد، والرجل الذي يميط الأذى عن الطريق عابد، والمزارع في زراعته عابد، والموظف في وظيفته عابد، نستطيع أن نجعل كل عمل نقوم به في حياتنا بالنية والاحتساب وابتغاء وجه الله عبادة إذا قمنا به غير مقصرين فيه.

لكن اليوم انحصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية، فأصبحت الأمة كغيرها من الأمم، ونسيت أن هذا الدين الذي ارتضاه لها ربُّها، يختلف عن الأديان الأخرى التي لا تتحدث إلا عن العقيدة والعبادة وبعض التقاليد والطقوس.

إن هذه الأمة التي أصبحت اليوم غثاءً كغثاء السيل، كانت بنيانًا مرصوصًا، وكانت كالجسد الواحد، كانت أمة العلم في الأرض، أمة الحضارة، أمة القوة، أمة الإبداعات، أمة الإنجازات، أمة الغلبة، أمة الانتصار، أمة التقدُّم، أمة الأخلاق، أمة السياسة، أمة الاقتصاد، أمة كل شيء، وأمة كل خير، أمة تهزم ولا تُهْزَم، أمة تغلب ولا يُغْلَب عليها، أمة تخضع لها الأمم كلها، وتسير خلفها.

لكن هذه الأمة التي كانت كل شيء، صارت غثاءً كغثاء السيل لأنها نسيت مقتضيات كلمة لا إله إلا الله، ونسيت ما تشمله هذه الكلمة، ونسيت ما عليه من المسئولية، ونسيت ما حدد لها من الهدف، فأصابها ما أصابها من الوهن والضعف، والتخلُّف والتمزُّق، فصارت تخضع لغيرها، وتسير على خطاها وتأخذ منها ما تعطيه إياها.

×