نبيُّ الرحمة
23 سبتمبر, 2024الإسلام هو البديل
21 نوفمبر, 2024الشيخ علي الطنطاوي (1)
د. محمد وثيق الندوي
يُعدُّ العلامة الشيخ علي الطنطاوي، شيخُ الأدباء في الشام، وأديبُ العلماء وجاحظُ القرن العشرين، واحدًا من كبار أمراء البيان في العصر الحديث، بل إن بعض صفحاته ترفعه مكانًا عليًا بين أمراء البيان في سائر العصور، وهو عَلَمٌ من أعلام الفكر، والثقافة الإسلامية، فهو الخطيب والفقيه النجيب، والكاتب والأديب الأريب، والمعلم الفريد الذي يجمع بين بلاغة الكلام وخفة الروح، وشخصية الداعية، وصفه البعضُ بأنه “قبضة من أرض الشام، عجنت بنهري النيل والفرات، ولوحتها شمسُ صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفسًا عزيزة أبيّة، تنافح عن الدعوة وتذود عن حياض الدين”.
نشأته وحياته
فهو الأديب العلامة الموسوعي على بن مصطفى بن محمد الطنطاوي، ولد في مدينة دمشق 23/5/1327هـ المصادف12/6/1909م في أسرة علم ودين، فأبوه وجدُّه من العلماء المعروفين، ومن جهة أمه فإن خاله هو الكاتب الإسلامي الأستاذ محب الدين الخطيب، والصحافي الشهير، والمؤرخ المعروف،ونزح جدُّه من “طنطا” في مصر، إلى “دمشق” سنة 1255هـ برفقة عمه، وكان عمُّه هذا عالمًا أزهريًا حمل علمه معه إلى ديار الشام حيث جدَّد فيها العناية بالعلوم العقلية، ولا سيما الفلك والرياضيات.
جمع الشيخ علي الطنطاوي في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ، والدراسة في المدارس النظامية، تلقى دراسته الابتدائية الأولى في مدينة دمشق في المدرسة التجارية التي كان أبوه مديرًا لها إلى سنة 1918م، ثم في المدرسة السلطانية الثانية، وبعدها في المدرسة الجقمقية، ثم في مدرسة حكومية أخرى إلى سنة 1923م، حين دخل “مكتب عنبر” الذي كان الثانوية الكاملة الوحيدة في دمشق حينذاك، ومنه نال البكالوريا” الثانوية العامة” سنة 1928م(1).
ثم سافر إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، وكان أول طالب من الشام يؤمُّ مصر للدراسة العالية، وكان زميلاً للشهيد سيد قطب،ولكنه لم يتم السنة الأولى، وعاد إلى دمشق في السنة التالية 1929م، ودخل معهد الحقوق بدمشق، حتى نال الليسانس “الإجازة الجامعية ” سنة 1933م.
توفي أبوه وعمرُه عشرة سنة، فكان عليه أن ينهض بأعباء أسرة فيها أم وخمسة من الإخوة والأخوات، وهو أكبرهم. ومن أجل ذلك فكر في ترك الدراسة، واتجه إلى التجارة(2).
ولكن الله صرفه عن هذا الطريق، وعاد إلى الدراسة ليكمل طريقه فيها،ثم ماتت أمُّه وهو في الرابعة والعشرين، فكانت تلك واحدة من أكبر الصدمات التي تلقاها في حياته بعد صدمته بموت والده(3).
مصادر ثقافته العلمية
من مصادر علمه وثقافته بيئةُ أسرته الكريمة العلمية، فكان والده الشيخ مصطفى الطنطاوي رئيس ديوان محكمة التمييز، من وجوه الفقهاء وعيون المربين، ووالدته من آل الخطيب، من بيت عُرف بالعلم والتُّقى، وخاله الأستاذ محب الدين الخطيب الذي حنا عليه ورعاه وغذاه، وفتح له سبل التعرُّف على شخصيات بارزة أثرَّت فيه.
ومن عوامل تكوينه العلمي مجالسُ العلماء والأدباء وندواتهم، فكان الشيخ الطنطاوي يحضرها، يساجل بعضهم، ومن أبرز هذه المجالس مجلس العالم الأديب محمد كرد علي، وسليم الجندي، ومحمد المبارك، ومصطفى برمدا، وآخرين، وكان يواظب على حضور محاضرات المجمع العلمي بدمشق، واستمر هذا النهج في سائر البلدان التي زارها، وتعرف على علمائها، ورموز الفكر والأدب فيها(4).
ومن الشخصيات التي تأثر بها الشيخ الطنطاوي،العلامة ابن الجوزي، وكتابه “صيد الخاطر” ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، والأستاذ أحمد حسن الزيات، وخاله محب الدين الخطيب.
ومصدر آخر لزاده وعلمه وتجاربه، رحلاتُه الواسعة المتعددة، حتى كأنه طوف في الأرض، يجني من كل الأرض أطيب ثمارها، وأحلى أزاهرها، وأغنى جواهرها.
ومن عوامل تكوينه العلمي، مداومتُه على المطالعة والدراسة، وقد كتب في مذكراته عن مطالعته: إني كنت أطالع وأقرأ كل يوم مئة صفحة، وبعض الأحيان ثلاث مائة صفحة، واستمرت هذه العادة من 1340هـ إلى 1402هـ، فكان طلعة يقرأ كل ما يقع في يده من طرائف العلم والأدب والفكر والتاريخ والفقه،و يستوعبه، كائنًا ما كان، فتنوعت دراسته كدراسة الجاحظ، وكذلك أثرت مجلة “الفتح” الغراء تأثيرًا عظيمًا في تكوينه العلمي والفكري والأدبي، وكان عاشقًا للكتب، وجِدّ حريصٍ دائم على القراءة، والفهم، وحفظ عشرات بل مئات القصائد من الشعر الجاهلي، والشعر الإسلامي، والأموي، باعتباره الحجة في اللغة، كما حفظ من الشعر العباسي أيضًا، وقرأ الكثير من الكتب الأدبية والتاريخ وعلوم الدين والثقافة العامة، وتعلَّم في مدرسة الحياة، وكتاب الواقع، ومن خلال معايشته ورحلاته إلى مصر والعراق واستانبول وأوروبا وآسيا وإفريقيا، وقد وُهب بصيرة نيرة، وحسًّا نقديًا عاليًا، يتجلى ذلك من موافقه، ونقده الأدبي، ونقده الاجتماعي، ونقده الديني.
في مجال الصحافة
وهو من الكتاب والأدباء الذين أسهموا في أكثر من جريدة ومجلة على مستوى العالم العربي، حيث كانت أول مقالة له سنة 1926م نشرها له الباحث المحقق الأستاذ محمد كرد علي في جريدة “المقتبس” وكان في السابعة عشرة من عمره، ولم ينقطع عن النشر، فنشر في كثير من الصحف، وشارك في تحرير مجلتي خاله محب الدين الخطيب “الفتح” و”الزهراء” حين زار مصر سنة 1926م، ولما عاد إلى الشام في سنة 1927م عمل في جريدة “فتى العرب” مع الأديب الكبير معروف الأرناؤوط، ثم في “ألف باء” مع شيخ الصحافة السورية يوسف العيسى، ثم كان مدير تحرير جريدة “الأيام” التي أصدرتها الكتلة الوطنية سنة 1931م، ورأس تحريرها الأستاذ الكبير عارف الكندي، وله فيها كتابات وطنية كثيرة، وكتب في “الناقد” و” الشعب” وصحف ومجلات أخرى، وفي سنة 1933م أنشأ الأستاذ أحمد حسن الزيات المجلة الكبرى “الرسالة” فكان علي الطنطاوي واحدًا من كتابها، واستمر فيها عشرين سنة، إلى أن احتجبت سنة 1953م، ورأس تحريرها حين مرض مؤسسها، وكتب سنوات في مجلة”المسلمون” وفي” الأيام” و” النصر” وحين جاء إلى المملكة نشر في مجلة” الحج” في مكة المكرمة، وفي جريدة” المدينة” وفي آخر أيام حياته نشر ذكرياته في “الشرق الأوسط” على مدى نحو من خمس سنين(5).
في مجال التعليم
بدأ بالتدريس في المدارس الأهلية بالشام، في الأمينية والجوهرية والكاملية، وهو في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره في عام 1345هـ،ثم صار معلمًا ابتدائيًاً في مدارس الحكومة سنة 1931م، حين أغلقت السلطات جريدة” الأيام” التي كان يعمل مديرًا لتحريرها، وبقي في الابتدائي إلى سنة 1935م، وبسبب مواقفه الوطنية وجرأته في مقاومة الفرنسيين وأعوانهم في الحكومة، ظل يُنقل من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، حتى طوف بأرجاء سوريا جميعًا من أطراف جبل الشيخ جنوبًا إلى دير الزور في أقصى الشمال والشرق،ثم انتقل إلى العراق عام 1936م مدرسًا في الثانوية المركزية في بغداد، ثم في ثانويتها الغربية ودار العلوم الشرعية في الأعظمية، ثم في المدرسة الثانوية في كركوك، ثم في ثانوية البصرة، وبقي في العراق إلى سنة 1939م ثم عاد إلى دمشق، فعين أستاذًا مساعدًا في “مكتب عنبر” الذي صار يدعى مدرسة التجهيز وهي الثانوية الرسمية(6).
في مجال القضاء
وفي سنة 1941م التحق بسلك القضاء، حيث عيّن قاضيًا في قرية “النبك” ثم في “دوما” من قرى دمشق، ثم قاضيًا ممتازًا ( 1943م ـ 1953م) ثم مستشارًا لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر، وقد أسهم في إعداد قانون الأحوال الشخصية (1947م ) وتعديل قانون الأوقاف، ومناهج المدارس الثانوية (1960م)(7).
وفي سنة 1963م وبعد الانقلاب العسكري، وإعلان حالة الطوارئ غادر سورية إلى المملكة العربية السعودية، حيث عمل بكلية الشريعة وكلية اللغة العربية في الرياض، ثم في مكة المكرمة، حيث أمضى بالمملكة العربية السعودية خمسة وثلاثين عاماً (1964ـ 1985م) انتهت بوفاته فيها في عام 1999م.
وفي هذه الفترة من إقامته في المملكة درّس في كلية التربية بمكة المكرمة، ونهض ببرنامج التوعية الإسلامية، وطاف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرغ للفتوى والردّ على الأسئلة والاستفتاءات من الناس في الحرم المكي، وفي بيته، ثم بدأ في برنامج إذاعي “مسائل ومشكلات” وبرامج تلفازية “نور وهداية” و”رجال من التاريخ” و”على مائدة الإفطار”طيلة ربع قرن.
وكانت له برامج إذاعية منذ أوائل الثلاثينيات، في إذاعة الشرق الأدنى التي كانت تبث من”يافا” وبرامج من إذاعة بغداد سنة 1937م وبرامج من إذاعة دمشق سنة 1942م.
كما شارك في الكثير من المؤتمرات في البلاد العربية والإسلامية وأوروبا، فضلاً عن المحاضرات والندوات والحلقات الدراسية،وقد منح جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1990م.
وكانت جهوده تشمل ميادين الإصلاح في كل جوانبها التشريعية والسياسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والدعوية والفقهية، ومحاربة البدع والخرافات والعادات والتقاليد البالية التي لا يقرها الشرع، والسلوكيات التي تتنافى مع مبادئ الإسلام وقيمه، ويدعو للاعتزاز باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ويتصدى لأعدائها.
ومن هنا كان الطنطاوي متعدد الجوانب، غزير العطاء، وافر العلم، يقتحم الميادين، ويغوص في غمار المعارك، ويلج في الأبواب، ليصل إلى الناس، ويسمعهم كلمة الحق، ويعرفهم بدين الإسلام، ويجمعهم على الخير والتعاون، والحب في الله، والعمل في مرضاة الله. يقول الدكتور سعد أبو الرضا:.
” تعددت اهتمامات الشيخ على الطنطاوي الفكرية، فهو المعلم الذي يهتم بتلاميذه تربية وتعليمًا وتثقيفًا، وهو الفقيه الذي يعنى بتيسير أمور الدين الإسلامي وجعله حاكمًا للدين والدنيا، خاصة وقد عمل بالقضاء، وهو المؤرخ الذي لم تنقطع صلته بالتاريخ أكثر من نصف قرن، يعكف عليه قارئًا، ثم كاشفًا ومحللاً ومستبصرًا، وهو المصلح الاجتماعي الذي يرصد الواقع بمتغيراته بغية الإرشاد والتوجيه والإصلاح، وهو الأديب الذي يتذوق الشعر والنثر، ويعالج فنونها، نتيجة معايشة حميمة لتراثنا الأدبي، وقراءات متعددة في أدبنا الحديث، خاصة وقد كان معاصرًا لكثير من رواده مثل د. زكي مبارك، ود. محمد حسين هيكل، ود. أحمد أمين، وأمين الخولي، والعقاد، والمازني، ومصطفى صادق الرافعي الذي تأثر الشيخ الطنطاوي بتوجهاته الفكرية والبيانية، وأحمد حسن الزيات، وخاله محب الدين الخطيب، الذي دعاه إلى جواره في القاهرة، حيث اتسعت أمامه مجالات البحث والقراءة والكتابة، كما شارك بعضهم في الكتابة في مجلات عديدة في دمشق والقاهرة، وخاصة “الرسالة” و”الزهرة” و”فتى العرب” و”الفتح” و”الزهراء”، بالإضافة إلى كتابته في الصحف والمجلات العربية الأخرى، وأحاديثه ومطارحاته في الإذاعة المسموعة والمرئية”(8).
المراجع:
- الذكريات:1/103ـ 130.
- الذكريات:8/26.
- الذكريات:2/149.
- الذكريات: 1/35.
- الذكريات:2/5.
- الذكريات: 2ـ4.
- الذكريات:4/166ـ271 وما بعدها.
- مجلة الأدب الإسلامي، المجلد التاسع، العددان: 34ـ35، 2002م.