من الاعتماد على الآخر… إلى الذاتية
22 أكتوبر, 2020من أرجحيات العمل الإسلامي المعاصر
9 يناير, 2021فرنسا دولة الحضارة أو دولة الجهالة؟
ركزت الدول الأوربية منذ فشلها في الحروب الصليبية على قطع صلة المسلمين بالتاريخ، وبثِّ الشكوك والشبهات في النفوس بشأن دينهم الإسلام ومصدريهما الكتاب والسنة، وإضعاف العلاقة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها أدركت أن عواطف الولاء والوفاء والحب والتقديس والفداء للرسول صلى الله عليه وسلم، هو المنطلق للمسلمين للتقدُّم إلى الأمام، والحافز القوي إلى العزائم والعظائم في سائر الأزمان، ولإدراك هذه الحقيقة سعت القوى المعادية للإسلام جاهدة باذلة لإضعاف الثقة بالإسلام والتشكيك فيه، وقطع الصلة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوسائل مختلفة، وحاربت مراكز التعليم الديني والتربية الإسلامية، كما فعلت فرنسا وإيطاليا وهولندة وألمانيا وبريطانيا وروسيا وأمريكا في مستعمراتها، ولا تزال هذه القوى الأوربية الاستعمارية تتربص بالإسلام وأتباعه الدوائر.
وقد ألف الكُتَّاب الأوربيون والحاقدون في العالم كتباً في السيرة النبوية بلغات مختلفة،واقتنصوا من السيرة وتاريخ الإسلام بعض الوقائع،واستغلوها استغلالاً لإثبات أنه –صلى الله عليه وسلم- نبيّ الحرب أو العنف، وأن الإسلام هو دين العنف، وتمسَّك بهذا الخطأ والاستنتاج المتعمَّد سائرُ الكتاب في الغرب وأوربا، وصار هذا التصوُّر المُزوَّر، شبه عقيدة للأوربيين لا تتغير بتغيُّر الزمن، ولا بالتجربة والمعرفة.
وقد أظهر بعض الكتاب الأوربيين والغربيين نيتَهم عند الكتابة حول السيرة النبوية، أن الغرض من كتابتهم في هذا الموضوع، هو قطع صلة المسلمين بذات الرسول صلى الله عليه وسلم واستئصال حبه وقدسيته واحترامه من قلوبهم.
وقد شاعت هذه الكتب، وأقبل عليها الناس، وأدخلت في المناهج الدراسية، واعتمد عليها الباحثون كمصادر موثوق بها، ولقد ألفت هذه الكتب –كما أشار إلى ذلك المفكر الإسلامي محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله في كتابه “لمحات من السيرة النبوية والأدب النبوي” -في عهد غلبة المسلمين السياسية في العالم، عندما كانت أوربا تخرج من عهد الظلام والجهل، وكانت أوربا في هذه الفترة تمرّ بحروب طاحنة، أدَّت إلى التشاؤم بالحياة، فوجدت معها عقدة نفسية أو مركب النقص أمام الغزاة والفاتحين المسلمين، والحضارة الإسلامية السائدة، فوجدت في سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وتزوير سيرته سلوى.
وظلت هذه الكتب الحاقدة والمضللة مقبولة لطبيعة العداء للإسلام التي ورثتها أوربا من عهد الحروب الصليبية،ويعكس ذلك العقلية الصليبية التي ما زالت تسيطر على تفكير اليمين المتطرف في التعامل مع الإسلام والمسلمين في أوربا وخاصة فرنسا إلى اليوم،ويحاول الأوربيون تصوير أوربا كمركز للحرية، مقابل دول إسلامية مركز للعبودية، لتبرير حروبهم الصليبية وإبادتهم لملايين المسلمين في الأندلس في عام 1492م، وقتلهم ملايين آخرين من المسلمين خلال احتلالهم للجزائر والمغرب الأقصى وليبيا وتونس فترة طويلة.
تدعي فرنسا بأنها بلد الحضارة، وصيانة حقوق الإنسان،وحرية الرأي والمعتقد، والمساواة، ومأوى المقهورين والمضطهدين، وترفع شعار الحرية والليبرالية أو تدّعي بها، وقد فصلت بين الدين والدولة، وعزلت الكنيسة عن السياسة، لكن تاريخ فرنسا المعاصر مليئ بالظلم والاعتداء، وسفك الدماء البريئة، والسلب والنهب،وقمع الأصوات، وكبت الحريات، والسلوك العنصري،وتعارض مبادئ الثورة الفرنسية (1789م-1799م) التي نادت بالحرية والمساواة والإخاء، كما فعلت فرنسا في الجزائر والمغرب الأقصى والدول الإفريقية،فقد اعترف في سبتمبر/أيلول 2018م الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن بلاده مسؤولة عن إقامة “نظام تعذيب” إبان استعمار الجزائر الذي انتهى في العام 1962م، وقد صرّح سابقًا في فبراير 2017 م أثناء حملته الانتخابية بأن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية”.
وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون –كما نشرت “الشرق الأوسط”في 7/ مايو 2020م-في رسالة وجهها بمناسبة الذكرى الـ75 لتظاهرات الثامن من مايو 1945م التي خرج فيها عشرات آلاف الجزائريين لمطالبة فرنسا بمنح بلادهم الاستقلال، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية: ” إن عدد ضحايا جرائم فرنسا الاستعمارية في بلاده تجاوز الخمسة ملايين ونصف المليون من كل الأعمار، أي ما يمثل أكثر من نصف سكان الجزائر حينها”. وقال في تصريحات نقلت وكالة الصحافة الألمانية جزءاً منها إن ” القمع الدموي الوحشي للاحتلال الاستعماري الفرنسي الغاشم، سيظلّ وصمة عار في جبين قوى الاستعمار، التي اقترفت في حق شعبنا طوال 132 سنة، جرائم لا تسقط بالتقادم رغم المحاولات المتكررة لتبييضها”، مؤكدًا أنّها “جرائم ضد الإنسانية، وضدّ القيم الحضارية لأنها قامت على التّطهير العرقي لاستبدال السكان الأصليين باستقدام الغرباء، كما قامت على فصل الإنسان الجزائري عن جذوره، ونهب ثرواته، ومسخ شخصيته بكلّ مقوماتها”.
وأما حرية التعبير في فرنسا، فلها مكيالان،هي الحرية نفسها التي تتغاضى بسببها فرنسا عن الاعتراف بجرائمها الاستيطانية في الجزائر، ولكنها تسارع إلى تشريع قانون يجرّم تركيا العثمانية في قتل الأرمن، وتؤيد نشر رسوم مسيئة إلى ذات الرسول صلى الله عليه وسلم باسم حرية الرأي، بينما تعارض الاحتجاجات والمظاهرات التي يقوم بها المسلمون تنديدًا بهذه الرسوم الكاريكاتيرية التي تجرح مشاعرهم وعواطفهم، وتعبيرًا عن حبهم وولائهم لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في نطاق حرية المعتقد والتعبير عن الرأي.
أما قصة نشر الرسوم المسيئة-كما كتب علاء عبد الرحمن في 26/ أكتوبر 2020م في قناة عربي 21-للنبي صلى الله عليه وسلم، والهجمات الممنهجة على المسلمين في فرنسا، وما يرافقها من إجراءات أمنية، وحملة مقاطعة واسعة للبضائع الفرنسية، فإنها تعود إلى العام 2005م الذي نشرت فيه (30/ سبتمبر 2005م) صحيفة يولاندس بوستن(Jyllands-Posten ) الدنماركية 12 صورة كاريكاتورية مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم،وبعد أقل من أسبوعين و في 10 يناير 2006م قامت الصحيفة النرويجية Magazinet والصحيفة الألمانية Die Welt والصحيفة الفرنسية France Soir و صحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر الصور الكاريكاتيرية.
وعقب عام من بدء نشر الرسوم المسيئة، قامت صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية في 2006م بإعادة نشر الرسوم المسيئة بعمامة على شكل قنبلة، وصورة أخرى لرجل يحمل سكينا وبجانبه امرأتان منقبتان،ونشرت في يناير من 2015م صورًا مسيئة إلى ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في 3/ مايو 2015م عقد معرض رسوم كاريكاتيرية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إطار منافسة بين رساميها،في صالة كيرتس ول في ضاحية غارلاند من مدينة دالاس بولاية تكساس، وفي كل مرة تقع ضحايا، ويقوم المسلمون باحتجاجات حاشدة ومظاهرات عارمة للتعبير عن سخطهم وغضبهم ضد الرسوم المسيئة كما وقع أخيرًا في فرنسا، وهذا رد الفعل طبيعي.
وعادت صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية في الأول من سبتمبر 2020م لنشر الرسوم المسيئة، دون مراعاة لمشاعر المسلمين حول العالم،ولم يتوقف الأمر عند حد الصحيفة، إذ عمدت الكثير من المؤسسات والمباني في فرنسا إلى إعادة تعليق الرسوم المسيئة على واجهاتها، في خطوة استفزازية للجالية المسلمة بالبلاد خاصة، وجميع المسلمين في العالم عامة.
وفي إطار ذلك،كما أفادت الصحف الأوربية، قام مدرس فرنسي يدعى صموئل باتي، بعرض الرسوم المسيئة داخل مدرسته أمام الطلاب، خلال درس عن حرية التعبير، فثارت حفيظة شاب من أصول شيشانية، يبلغ من العمر 18 عامًا، وقتل المدرس وقطع رأسه، ردًّا على ما قام به المدرس الفرنسي، ثم قامت الشرطة الفرنسية بملاحقة قتل على إثرها.
وفي أعقاب هذا الحادث قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تصريح له “إن الخوف سينتقل إلى الجانب الآخر” والمقصود بالآخر هم الذين يرتكبون أعمال عنف أو يحضون عليها حسب زعمه، وأضاف أن “الإسلاميين يحاولون مصادرة مستقبلنا” ولن تتخلى فرنسا عن الرسوم الكاريكاتيرية”.
وقد شن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون –كما كتب الدكتور خليل العناني في مقاله الذي نشرته الجزيرة نت 2/نوفمبر 2020م-” حربًا سياسية وثقافية وإعلامية على ما يسميه بالانعزالية الإسلامية، والتي يعني بها الممارسات الدينية والثقافية لبعض مسلمي فرنسا، والتي يراها ماكرون تهدّد قيم الجمهورية الفرنسية، وتسعى إلى “إقامة نظام مواز” و”إنكار الجمهورية”، حسب تصريحات له أوائل شهر أكتوبر الماضي، كذلك وجّه ماكرون تصريحات وقحة تعكس جهلاً فجًا بالإسلام، الذي اتهمه بأنه “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”.
والحقيقة أنه ثمة أزمة هناك؛ لكنها ليست في الإسلام كما يدّعي ماكرون، ومن يدافعون عنه شرقًا وغربًا، إنها في العلمانية الفرنسية وفي نموذجها اللائكي(العلماني) الذي فشل فشلا ذريعًا في استيعاب كافة شرائح المجتمع الفرنسي على مدار نصف القرن الماضي، وإن النموذج اللائكي الفرنسي يعيش اليوم أزمة حقيقية لا مخرج منها إلا من خلال إعادة النظر في بنية هذا النموذج ومرجعيته الأخلاقية، وذلك بشكل يساعد على دمج المهاجرين سواء مسلمين أو غيرهم من الأقليات، دمجا حقيقيا من خلال الاعتراف بحقهم في اختيار مرجعيتهم الدينية والأخلاقية، وإنهاء سياسات التهميش والتمييز بحقهم، والتعامل معهم باعتبارهم “مواطنين”، وليسوا مجرد عالة أو تهديدًا للدولة والمجتمع”.( الجزيرة نت 2/نوفمبر 2020م)
وإن إصرار فرنسا على نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم يعكس ظاهرة الإسلاموفوبيا، والعداء والكراهية التي تستمد جذورها من الحروب الصليبية (1095-1492م).
ومن مظاهر هذه الكراهية والعداء صدور كتب ضد السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والشخصيات الإسلامية، وصور كاريكاتيرية حيناً بعد حين مع أن أصحاب العلم وخاصة الذين هيئت لهم فرص التعايش مع المسلمين، يعرفون أن المسلمين حتى غير متدينين منهم يعتبرون نبيهم الكريم أحب وأكرم من والديهم، وعرضه أقدس من أعراضهم، قال شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت الأنصاري:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
يعلم أهل الغرب وأوربا هذه المشاعر والعواطف الجياشة في المسلمين للتضحية بكل رخيص وغال في سبيل الدفاع عن كرامة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لا تنقطع سلسلة الهجوم على الإسلام وخاصة ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤدي هذه الإساءات المتكررة إلى خسائر في الممتلكات وتذهب ضحيتها نفوس الأبرياء والغيارى،وإن هذا السلوك الشائن المتعمد يدل على الغي والعناد والكراهية الدفينة في الفنوس في أوربا والغرب.
فنظرًاإلى هذه الإساءات المتكررة تشتد الحاجة إلى وضع قوانين لاحترام الأديان ورجال الدين في دساتير العالم وخاصة في ميثاق حقوق الإنسان، وكذلك هيئة الأمم المتحدة مُطَالَبَةٌ باتخاذ قانون يوجب احترام العقيدة، ويجرم أي إساءة إلى الشخصيات المحترمة وخاصة نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ويحدد نطاق حرية التعبير عن الرأي.
محمد وثيق الندوي (مدير التحرير)