“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)

أمراض المجتمع وعلاجها (16)
11 ديسمبر, 2025
ما يُعرف وما يُساء فهمه
11 ديسمبر, 2025
أمراض المجتمع وعلاجها (16)
11 ديسمبر, 2025
ما يُعرف وما يُساء فهمه
11 ديسمبر, 2025

“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (2)

د. أبو سحبان روح القدس الندوي
أما بنود الوثيقة أو الصحيفة المتعلقة بالمهاجرين والأنصار فإنها “أوضحت وحدة الأمة وتمايزها، إنهم أمة واحدة دون الناس، أمة يرتبط أفرادها برابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وَلاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكاكهم للشرع وليس للعُرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس، فهذه الروابط تقتصر على المسلمين، ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء في مجتمع المدينة، ولاشك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمرًا مقصودًا يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة، وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود”(1).
“ولا ريب أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزًا بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يقبل أيديولوجيته”(2).
“وقد ذكرت البنود من (3) إلى (11) الكيانات العشائرية، واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم، وذكر العشائر لا يعني اعتبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية، فقد حرم الإسلام ذلك، وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هي الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه، لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين أفراد الأسرة الواحدة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات على الآباء والأبناء وأفراد العشيرة الواحدة، وما يترتب عليهم من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم، وأفراد المحلة الواحدة، وأفراد القرية الواحدة، وأبناء المدينة الواحدة فلا تخرج زكاة أموالهم من مدينتهم إلا بعد استيفاء حاجات أبنائها”(3).
“إن التكافل الاجتماعي يحتم على العشيرة أن تعين أفرادها، ومن ذلك إذا قتل فرد منها أحدًا خطأ، فإنها تدفع دية القتل بالتضامن بين أفرادها، وقد كان ذلك متعارفًا عليه في الجاهلية فأقرته الوثيقة لما فيه من التعاون – على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى – أي على شأنهم وعادتهم من أحكام الديات”(4).
“وكذلك تعين العشيرة الأسرى من أفرادها بمفاداتهم بالمال – وهم يفدون عانيهم – أي الأسير بالمعروف”(5).
“كما أكدت الوثيقة على المسؤولية الجماعية، واعتبرت سائر المؤمنين مسؤولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة”(6).
“إن اهتمام الوثيقة بإبراز دور المؤمنين يتضح من البند رقم (13) والبند رقم (21) حيث ينص البند رقم (13): وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، فهي تعتمد على المؤمنين في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين والمرتشين”(7).
أما البند رقم (21) فنصه: “ومن اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود به”. أي أن من قُتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو”(8).
“ويقتضي التكافل الاجتماعي بين المؤمنين أن يعينوا المفرح منهم – أي الذي أثقله الدين – إن كان أسيرًا بفدائه وإن كان جنى جناية عن خطأ دفعوا الدية عنه كما ينص البند رقم (12)”(9).
“لقد أقر البند (12– ب) فكرة الحلف ولكنه لم يسمح بالتجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، فلا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم”(10).
“ويبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين (لا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن) فهذا دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن، وتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم، وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكفار”(11).
“ويقرر البند رقم (17) (إن سِلْم المؤمنين واحدة، لا يُسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم) فمسؤولية إعلان الحرب والسلم لا يقرره الأفراد بل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم، ولا يمكن لفرد منهم مهادنته، لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين”(12).
“كما أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون أخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات”(13) (وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا) بند رقم (18)”.
“وقد أقر البند رقم (15) مبدأ الجوار الذي كان معروفًا قبل الإسلام، وجعل من حق كل مسلم أن يجير، وألا يخفر جواره”(14).
“كما حصر الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصر فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافرًا – والمؤمنون بعضهم أولياء بعض”(15).
“لكن البند رقم (20– ب) يمنع من بقي على الشرك من الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أمام تصدي المسلمين لها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مصممًا على المضي في سياسة التعرض لتجارة قريش، ولاشك أن المسلمين من الأوس والخزرج وهم الأكثرية الغالبة في عشائرهم هم الذين سيتكفلون بتطبيق هذه المادة بالنسبة للمشركين من أفراد عشائرهم”(16).
“وفي ختام بنود الوثيقة المتعلقة بالتحالف بين المهاجرين والأنصار يقرر البند رقم (23) أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدنية (وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم)”(17).
لا غرو أن أهمية الوثيقة تتجلى من اقتضا بنا أهم البنود منها مفسَّرة.
الهوامش:
1. عصر السيرة النبوية، ص: 146–147.
2. المصدر نفسه، ص: 147.
3. المصدر نفسه، ص: 147–148.
4. أيضًا، ص: 148.
5. أيضًا، ص: 148.
6. أيضًا، ص: 149.
7. أيضًا، ص: 149 ومعنى (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق، أما تخصيص المتقين بتحمل المسؤولية فلأنهم أحرص من سواهم على تنفيذ الشريعة لكمال إيمانهم ولأن من اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام فيبغي ويخالف الحدود فيمنع من ذلك، كذا في شرح الزرقاني 4/168.
8. عصر السيرة النبوية، ص: 149.
9. المصدر نفسه، ص: 150.
10. المصدر نفسه.
11. أيضًا، ص: 151.
12. أيضًا، ص: 151 نقلاً عن شرح الزرقاني على المواهب 4/168.
13. أيضًا.
14. أيضًا.
15. أيضًا.
16. من المصدر السابق، ص: 152.
17. أيضًا.