التركيز هو أساس النجاح في الأعمال
4 نوفمبر, 2024ما يصلح الملح إذا الملح فسد
10 ديسمبر, 2024أمراض المجتمع وعلاجها (5)
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
- التجسس:
بعد ذكر سوء الظن في سورة الحجرات، جاء الحديث عن مرض “التجسُّس”: “وَلَا تَجَسَّسُوا”، أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوا معايبهم، فالإنسان عندما يسوء ظنه بالآخرين يبدأ يراقبهم ويتتبع تصرفاتهم وعثراتهم، وقد يضع عليهم عيونًا حتى تظهر أعمالهم الحسنة له كأنها سيئات وعيوب.
إن كلمة “جاسوس” مشتقة من “التجسُّس” ولا يجوز لمؤمن أو جماعة مؤمنة أن يتجسسوا أو يتبعوا معايب الآخرين من المؤمنين. ففي كل شخص عيوب، منها ما هو بسيط ومنها ما هو جسيم، وقد حثَّ الإسلام على غض البصر عما في الناس من عيوب ونقائص، وتجنُّب البحث عنها، والنظر إلى ما فيهم من خيرات ومحاسن، أما بالنسبة للذين يتمردون على الله ويعادون الإسلام، فإنه ليس من حرج أن تطلعوا على أخبارهم وتراقبوا نشاطاتهم وتبحثوا عن خطواتهم لأن مراقبة مكائدهم واستخدام وسائل التجسس للتعرف عليها ومعرفة مواطن ضعفهم استرتيجية حربية، وذلك بهدف السيطرة عليهم وحماية المجتمع من شرورهم.
إنما المؤمنون إخوة، مثلهم كجسد واحد، لا فرق بينهم بين غني وفقير وصغير وكبير وعابد وغير عابد، وصالح وغير صالح، لا يسعون إلى كشف عورات بعضهم، بل يتميزون بحب الخير والنصح، مقتدين بما أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحب بعضهم لبعض ما يحبون لأنفسهم، فلا يحملون في قلوبهم حسدًا ولا غلاًّ،ولا يكنون لأحد شرًّا، ولا يتتبعون عثرات الآخرين وإن عثروا على خطأ لأحد حاولوا إصلاحه بدل فضحه،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.” (صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس: ٦٧٠١)
وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إنَّكَ إنِ اتَّبعتَ عوراتِ النَّاسِ أفسدتَهُم أو كدتَ تُفْسِدُهم.” (سنن أبي داؤد: كتاب الأدب، باب النهي عن التجسس: ٤٨٩٠)
وروى أبو داؤد في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إنَّ الأميرَ إذا ابتغى الرِّيبةَ في النَّاسِ أفسَدَهُم”. (سنن أبي داؤد: كتاب الأدب، باب النهي عن التجسس: ٤٨٩١)
تبين الأحاديث النبوية بوضوح أن الفواحش والمنكرات الظاهرة يجب إنكارها علانية، بينما لا ينبغي البحث والتنقيب عن العيوب التي لا يعرفها الناس، وذلك لأن إذاعة المعايب المستترة تؤدي إلى افتضاحها، وتفشي الفساد في المجتمع. ولذلك ورد في الحديث “كل أمة معافى إلا المجاهرين”. (صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه: ٦٠٦٩)
فبما أن الأحاديث النبوية الشريفة تدعونا إلى إخفاء ذنوبنا، فكيف يجوز لنا التشهير بعيوب الناس؟ لذلك أمرنا أن لا نكون متتبعين لعيوب غيرنا ولا نسعى للاطلاع على أحوالهم الشخصية، وقد روى الترمذي أن”صعد رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المنبر فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقال يا معشرَ من أسلمَ بلسانهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبهِ، لا تُؤذُوا المسلمينَ ولا تُعيّروهُم ولا تَتّبعوا عوراتهِم، فإنه من يتبِعْ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَهُ، ومن يتبعِ اللهُ عورتهُ يفضحْه ولو في جوفِ رحلهِ”. (سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن: ٢١٦٤)
يتجلى من هذا الحديث النبوي الشريف أن الذين يبحثون عن عيوب الناس ويتبعون عوراتهم هم أصحاب قلوب مريضة بعيدة عن نور الإيمان الحقيقي، فالله يحب عباده المؤمنين، فإذا آذاهم أحد بدون حق أو اتبع عوراتهم، فإن الله يفضحه “فالجزاء من جنس العمل”.
فإن كل من يحاول إذلال الآخرين وتشويه سمعتهم دون مبرر، فلن ينجو إذ سيذله الله يومًا ما. لأن النيل من كرامة المسلم دون حق من أبشع الربا. وعلى العكس من ذلك، من يغض طرفه عن معايب الآخرين ولا يتتبع زلاتهم ولا يشهّرها أو يفضحها حين يراها، فإن له أجرًا عظيمًا لأن الله سيستره يوم القيامة كما ستر أخاه المسلم.
في الحديث: “مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ”. (سنن ابن ماجة: كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن..: ٢٦٤١) وفي الحديث أيضًا: “مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مُوءُودَةً”. (سنن أبي داؤد: كتاب الأدب، باب في الستر عن المسلم: ٤٨٣٩)
فجاء في الحديث الشريف تعبير حكيم بليغ يوضح أن فضح عيوب الآخرين يسبب لهم ضررًا جسيمًا، حتى يصبحوا وكأنهم فقدوا حياتهم ومعنوياتهم ولم يعد لهم شأن في المجتمع.
ومن بين الأضرار الأخرى أن الشخص المتهم قد يصبح عرضة لمزيد من المعاصي والسيئات، وبسبب تشويه سمعته يزول الخوف من المجتمع، ويتحول الشخص إلى مصدر للشرور. أما إذا سترت هذه السيئات، فقد منح الشخص فرصة لإصلاح نفسه وفرصة للتوبة والعودة إلى الجادة المستقيمة، كأنما أُعيدت له الحياة من جديد.
وهنا يجب أن نفهم جيدًا أن ستر العيوب وغض الطرف عنها شيء، لكن هذا لا يعني أبدًا التهاون في مكافحتها أو التساهل في مواجهتها، وتركها لتنتشر بين الناس. فقد جاء في الحديث الشريف: “مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ” (صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن..: ١٨٦)، وفي حديث آخر: “ما من رجلٍ يكونُ في قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي، يَقدرونَ على أن يُغيِّروا عليهِ، ولا يُغيِّرونَ؛ إلَّا أصابَهم اللهُ منه بعِقابٍ قبلَ أن يموتو”. (سنن أبي داؤد: كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي: ٤٣٤١)
وقد روى البخاري في صحيحه حديثًا، يشرح هذا المبدأ بوضوح حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، مِثلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ”. (صحيح البخاري: كتاب الشهادات، باب القرعة..: ٢٨٨٦)
فالنهي عن المنكر فريضة دينية وواجب شرعي على كل مسلم ومسلمة. ولكن اتباع عورات الناس ونشر معايبهم وإهانتهم أمر محرم وجريمة شنيعة، فإن الشريعة الإسلامية تأمر بستر عورات الناس وعدم التحدث عنها، لأن ذلك قد يجرُّ إلى تفشيها في المجتمع حتى يقع فيها الصالحون. (تعريب: سعد مبين الحق)