إلى منهج جديد لعرض الإسلام وترشيد العمل الإسلامي
26 نوفمبر, 2022الحكمة في سلوك الإنسان
26 نوفمبر, 2022روحانية الرسول صلى الله عليه وسلم
الأستاذ محمد الغزالي
للنفوس المعتادة لحظات تصفو فيها من كدر، وترق من غلظة، وترقى إلى مستوى يحلق بأفكارها ومشاعرها إلى جو نقي طهور، لكنها لا تلبث طويلاً حتى إلى أفقها الداني، لتعيش فيه أكثر وقتها ولترمق سويعات الكمال التي تعتريها، وكأنها ألق عارض، أو معنى نصح من عالم بعيد!
وللنفوس العظيمة مجال أرحب مدى وأطول امتدادًا، تشرف فيه على الحياة، ولها فكر أوعى، وشعور أقوى، وتستقيم على نهج من السلوك الرفيع قلما تزل عنه، فهي كالطير الذي ألف الذرا لا ينحط دونها إلا لمامًا، وإذا هبط فما يبقى إلا ريثما يرفرف بجناحيه صعدًا إلى حيث يعيش، كذلك خلق الله الناس، وكذلك درجوا منذ الأزل، فهم بين عامة مغلولين في قيد من مطالبهم المحدودة، وربما انفكوا عنه حينًا، وبين خاصة أمكنهم الخلاص من أغلب هذه القيود، وربما تشبث أحدهما بأقدامهم فأرهقهم حينًا!
وإذا كان شأن العامة أنزل رتبة من شأن الخاصة، فإن هؤلاء الممتازين أنفسهم يقع بينهم من التفاوت في الخير والفضل، ما يشبه التفاوت بين أبعاد الكواكب بعضها يفكر الناس في الوصول إليه، لأنه – وإن بعد – قريب وبعضها تنقطع الأوهام دونه لأن الشقة إليه لا يقطعها إلا الخيال الشرود والفروق بين عظماء الناس لا يدركها حصر.
وقد اقتضت حكمة الله أن يختار حملة الوحي الأعلى من الصفوة المنتقاة بين هؤلاء الخاصة، وهي صفوة مبرزة في كل شيء.
فلو أقيم سباق عام بين أولى المواهب الناضجة والقرائح القوية والمعادن الصافية، والأبدان النقية، لكان أنبياء الله وحدهم أصحاب السبق فيه، إن الأنبياء رجال لا يدانون في ذكائهم وصلابة عزائمهم، وبعد همهم، وسعة فطنتهم، وإداركهم الشامل لحقائق النفوس، وطبائع الجماعات.
ومن الخطأ الجسيم أن تحسب أولئك المرسلين على قدر ما من “الطيبة” والسذاجة، رشحهم لقيادة بعض الناس في عصور التخلف والبساطة.
كلا، كلا، فإن زعامة الأمم في القديم والحديث، لا تنعقد صدقًا إلا لرجال أوتوا من المقدرة النفسية ما يوطئ لهم الأكناف، ويجمع حولهم الآلاف.
وقد أومأ القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله:
“وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ”. (ص: 45-47)
فهل فقهت أسرار العظمة في أطواء هذا الوصف الموجز؟ أولي الأيدي والأبصار! أصحاب القوى الفارهة والأبصار النيرة، أصحاب الإقدام الذي لا يشوبه عجز، والنظر الذي لا يشبهه جهل، إنهم مستخلصون من أجيال الدنيا، كما تستخلص أطايب البستان النضر في هدية مستحبة، قد يترك فيها الجميل إلى ما هو أجمل منه! ذلك هو معنى الاصطفاء.
في ماضي الحياة وحاضرها، ومستقبلها كان الوحي الإلهي – ولا يزال – العاصم الذي يمسك الأرض أن تزول، والحضارات أن يلتبس فيها الرشد بالغي، ولن يخطئك وأنت ترمق سدانة هذا الوحي المبارك أن تستجلي هامة شماء توجها الجلال والأدب وزانها الصدق واليقين، برزت بين هداة السماء بروزًا كاد يحجب ما حوله.
من هؤلاء النبيون الذين وكل إليهم أن يهدوا الناس ردحًا من الزمن، في العصور الأولى.
أما هذا النبي المنفرد، فقد كلف أن يهدى الناس الدهر كله، وأرسل بكتاب يبقى بينهم، ما بقي الليل والنهار.
وسط أولئك الصالحين المصلحين تلمح في خشوع وتوقير “محمد” بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة، وملتقى العقائد والفضائل التي ناط القدر بها صلاح الأولين والآخرين.
إنه المثل العليا كلها في إطار من اللحم والدم، تستطيع أن تعرفه في يسر من الكتاب الذي جاء به، ومن الحكمة التي يتفجر بها منطقه، بيد أنك لن تستطيع الاتصال به إلا إذا نشدت لنفسك المثل الرفيعة التي تحيا في سيرته، أما الواقفون مع أنفسهم في بداية الشوط، فهيهات أن يرتبطوا به.
العصاة الذين يبغون التوبة، والجهال الذين يطلبون العلم، والحائرون الذين يبحثون عن قرار، والقاصرون الذين يسعون وراء الكمال، أولئك جميعًا في جهادهم لبلوغ أهدافهم، سوف يعرفون الكثير عن “محمد” لأنهم سيهتدون بآية وينتفعون بنصحه.
إن من خصائص القيادات الروحية الكبرى أنها تقدح زناد النشاط الإنساني فيمن اقترب منها، وتطلق قواه الكامنة ليخدم الحقيقة الكبرى في حدود ما أوتي.
وإذا كان الزعماء القوميون يتيحون فرصًا واسعة لخدمة الوطن مثلاً عند ما يهيئون لأتباعهم وحواريهم فرصًا أوسع لإحراز الكمال، ثم لغرسه في دنيا الناس، لتحلو به هذه الدنيا وتعلو.
ومن ثم قلنا: لا يعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم من احتبس في سجن الدنايا أو قعد عن نصرة الحق والخير.
وينابيع الحياة العاطفية والفكرية في نفس الرسول الكريم “محمد” بن عبد الله تجئ من معرفته الساطعة بالله، وذكره الدائم له، وأخذه بنصيبه الضخم من معاني الكمال في أسمائه الحسنى.
ذلك أن الله خلق آدم على صورته، واستخلفه في هذه الأرض ليكون نائبًا عنه، ومكنه بل كلفه، أن ينشط في استغلال خيرها وامتلاك أمرها، وأوصاه أن يحترم أصله الإلهي العريق، فلا يتدلى عنه إلى نزعات الطين ووساوس الشياطين.
يجب أن يكون عالماً ماجدًا قادرًا كريمًا، رحيمًا منعمًا وهابًا، إلى آخر ما ترمز إليه أسماء الله الحسنى من صفات الكمال وشارات العظمة والجمال. [من كتاب “جدد حياتك”]