هكذا أحببناه

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومنهج تدريسه في اللغة العربية
10 سبتمبر, 2023
إنسان عظيم فقدناه
10 سبتمبر, 2023

هكذا أحببناه

عبد الوهاب، دار العلوم، كراتشي

فارقتنا الشخصية الكريمة القدوة التي كنا نعتزّ بوجودها بين ظهرانينا كأمة، وكان وجودها موطنَ خير وبركة واعتزاز للأمة الاسلامية فضلًا عن مشاركاته الأدبية وجهوده الدعوية والإصلاحية على مدى أكثر من نصف قرن ومايزيد.

إنه العلامة المصلح والكاتب الداعية الشيخ محمد الرابع الندوي الذي كان خير خلف لخير سلفه الإمام أبي الحسن الندوي رحمهما الله تعالى.

كان في طليعة الجيل الذي نشّأه العلامة أبو الحسن الندوي وربّاه على منهجه الوسطي المتزن المستقى من الكتاب والسنة والمتوارث من لدن سلف هذه الأمة.

يتميز هذا الجيل بقلمه الأدبي السحري الممزوج بحسّه الدعوي العصري.

فكان أحدهم إذا كتب، كتب وكأنه يغمس قلمه في مداد من نور وإيمان، وحبر من عاطفة وإيقانٍ.

وهو الأسلوب الأدبي الطري النقيّ الحلو الذي أسّسه صاحبه العلامة المفكر أبو الحسن الندوي في زمن أضحت فيه مهمة الكتابة جدبة جافة خاوية من سرور وإيمان، ناضبة مقفرة من حماس وطموح.

وأخذ فقيدنا العلامة حظه الأوفر من نصيب هذا الأسلوب كما حظي من قبله الكاتب النابغة الشاب الشيخ محمد الحسني منه بنصيب الأسد (رحمهم الله تعالى جميعاً).

رغم أنه لم يتيسّر لي اللقاء به ولم يجمع بيننا مجلس طبيعي إلا أنه قد عاش بشخصيته الكريمة المحبّبة في خيالي وقلبي وعقلي كأي طالب علم غيري.

كان امتدادًا لمنهجية الإمام الندوي واستمراراً لفيضه المدرار.

ولَكم حدّثتني نفسي أن أراسله وأبثّ له مشاعري وأنشر بين يديه ما يموج في وجداني من أحاسيس حبّ له واعتقادٍ وتعلّق به واعتزاز، وأن أمدّ إليه يد البيعة والاسترشاد.

وفعلاً، فقد عزمت على ذلك في إحدى الليالي الخاليات إبّان دراستي في دارالعلوم كراتشي، وجلست إلى مكتبي متوضئًا ومتهيّبًا إزاءَ شخصيته العفيفة النزيهة التي كانت متماثلة في مخيلتي:

عسى أن أكتب أروع رسالة يكتبها تلميذ مسترشد إلى شيخه المحبَّب!

فمهّدتُ ورسمتُ وحاولتُ ثم حاولتُ وثم وثم، ولكن بلا جدوى.!

لم تسخُ عليّ قريحتي الشحيحة إلا ببضعة سطور لم أرَها توفّي شعوري حقَّه من التعبير والبيان.

فتقاعستُ خائبًا أمام حبّه الدفين في القلب لأحتفظ له به عن ظهر الغيب.

وأسعدني ربّي فيما بعد أن تشرّفتُ بإجازته الحديثية على إثر بعض المجالس التي نظّمها بعض تلاميذه الكبار عن بعد، فكان شرفًا لي أي شرف.

وعندما أكملتُ تعريبي لأحد أعمال العلامة أبي الحسن الندوي بتوجيه من الأستاذ عبدالقادر، وهو من زوّار فضيلة الشيخ الفقيد والمتردّدين إلى مجلسه أخبرني أنه ذكر بين يديه هذا العمل واستأذنه فاستبشر به خيرًا وأذن فيه. فأفرحني أن خطر هذا الجهد المتواضع في بال عظيم من عظماء الأمة.

رغم طموحي الشديد بلقياه وعدم تمكّني منه إلا أن الأمر الذي كان مبعثَ طمأنينة لدى كثير من طلاب أمثالي هو وجوده معنا في نفس الفضاء وتحت ذات السماء نابضًا بالحياة متعمتّعًا بها نافعًا بلاد الله وعباده بأنفاسه الطيبة.

ويكفي أننا أحببناه، فالحبّ همزة وصل بين أهله، مهما تباعدت الدار وشطّ المزار.

ولكن شاء الله تعالى أن ينقطع هذا الخيط الأخير من الأمل!

اليوم وبتاريخ 22 من شهر رمضان المبارك (1444هـ) بلغَ أسماعَنا نعيُه المروّع بلسان شيخنا العلامة الفقيه محمد تقي العثماني حفظه الله تعالى في مفتتح حلقته الإصلاحية الرمضانية بلهجة ملؤها التحسر والحزن وأفاد أنه كان خليفةً بحقّ للعلامة أبي الحسن الندوي وارثًا مجدَه وذوقَه النزيه وتذكّر ما كان يشمله به من عناية وكرَم واهتمام ومتابعة لأخبار بعضهما البعض.

هكذا يعرف ذا الفضل من الناس ذووه. وهكذا يكون العلم رحِمًا بين أهله وحامليه الصادقين.

كانت شخصية أبي الحسن الندوي أقوى الشخصيات تأثيراً على قلوبنا ووجداناتنا الطلابية حين تفتّح وعينا على مكتبة الأدب والدعوة والفكر الإسلامي.

ولَكم تمنّينا ونحن نقرأ في كتبه السحرية التأثيرِ لو أدركناه حيًّا يعيش لنرتوي من معين صحبته كما يرتوي الظمآن من معين الماء الصافي.

وخلفه ابن أخته العلامة الأديب الشيخ محمد الرابع الندوي كأصدق ما يخلُف تلميذ شيخَه ومسترشدٌ مرشدَه وكأوفى ما يفي ولد بمنهج والده.

فحسبنا فيه عوضًا لنا عن الإمام الندوي. ولكن لم تزل دون الوصول إلى عتبة بابه كهوف وغارات وخرط القتاد.

وكنا نستعيض عن ذلك بمن ينزل بنا ممن رآه وجالسه نستنطقه ليحدّثنا عن شِيمه وأحاديثه وأطواره، أدبه وكرم وسمته وحلمه وتواضعه ومحياه الطلق في وجوه الزائرين ومخالطته لهم على المائدة كأحدهم.

فتجد فيها نفوسنا قرارتَها وحلاوتَها.

ومما يقيني حسرةَ الحرمان أن هيّأ لي ربّي أسبابَ العمل تحت لوائه، كجندي عادي يسير في مؤخّرة الركب أملاً في اللحاق.

وذلك من خلال الانضمام إلى عضوية رابطة الأدب الإسلامي التي كان يقود مسيرتَها ويُشرف عليها بعد رحيل قائدها الأول: الإمام أبي الحسن الندوي.

فكان للقلب المتيّم فيه سلوة وإحساس بمتعة كوني مشمولاً بظلال رعايته الكريمة.

يكفي أنه كان الوريثَ الصادق للمنهج الوسطي الرصين الرزين الذي رسم معالمَه سيده الإمام أبو الحسن الندوي.

ظلَّ وفيًّا لهذا المنهج ومنافحًا عنه بقلمه البليغ ولسانه الهادئ الفصيح وعمله المستقيم السديد. لم يُحدث فيه ثغرةً ولا شطَطًا.

وإذا كان العلامة القرضاوي المتفرّس يقول في الإمام أبي الحسن: “إنّ حبّ الشيخ من علامات الإيمان”، فلا غروَ أن يصدق ذلك على خليفته التي ورث مجدَه وفضلَه وخُلقَه.

هكذا ولهذا وذاك أحببناه وبملأ القلوب.

وأحببنا أيضًا نشرَه مسكاً وعبيراً لينساب في ثنايا هذه السطور العاجلة ويعمّ بطيبه المارّةَ أجمعين.

فاللهم وغفر له وارحمه وتقبّل حبّنا له واجزه عنا وعن الأمة خير ما تجزي عبادك الصالحين وعلماءك الربانيين.

رحم الله الندوي رحمة واسعة وكان رحمه الله من العلماء المعدودين في ألعالم الإسلامي وقد التقتيته في الهند في ذكرى مرور ١٠٠ عام على ميلاد أبي الحسن الندوي الذي تصادف هذا اليوم ٢٦ رمضان ١٩٩٧ وقد صلى عليه الملايين في الحرم المكي رحمهما الله جميعا.

×