شمس كانت ساطعة، فغربت!

محمد الرابع الحسني الندوي حارس الإسلام والعربية في شبه القارة الهندية
9 سبتمبر, 2023
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وحلمه
9 سبتمبر, 2023

شمس كانت ساطعة، فغربت!

محمد علاء الدين الندوي

عميد كلية اللغة العربية وآدابها، بدار العلوم لندوة العلماء، لكناؤ

إن الخصيصة الكبري التي كتبها الله لأسرة فقيدنا الراحل حضرة أستاذنا الشفوق السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله، وكان أحد أبناءها البررة، مزدانة مذ بدءها بشعار التمسك بالعقيدة الحنيفية البيضاء السمحة النقية، ومتمثّلة بالربانية الصحيحة الطاهرة. وجامعة بين الحب الصادق العميق لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والتفاني في سبيل الحق والجهاد، وبين الاشتغال بالقلم الجادّ الغيور، وبين تربية النفوس وتزكية القلوب، وبين بذل الجهد المثالي في مواكبة مسيرة الدعوة الإسلامية، وبين التجسيد للقيم الإسلامية. فلا تجد في حياة أعضاء هذه الأسرة ملتويات، ومنعطفات، وإنما يسيرون علي الدرب النير، والمحجّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيدون عنها أيا كان الأمر. وقد قيض الله في هذه الأسرة رجالا “صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه”. (الأحزاب: 23)

ومنهم أستاذنا الأجلّ، وقائد الأمة الإسلامية الهندية في الآونة الأخيرة، بصفته رئيس هيئة قانون الأحوال الشخصية المسلمة لعموم الهند، ومربّي الأجيال والشباب الإسلامي في ندوة العلماء زهاء بضع وسبعين سنة، والداعية المخلص للإسلام والمسلمين السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله. قام هذا العالم الجليل، والقائد الحكيم بتبصير المسلمين الهنود في أشد الساعات حرجا، وأوصاهم بالحق والرشد والسداد، وقادهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ودعاهم إلي الوسطية، ونصحهم بالتمسّك بالحلم والأناة، والسلام والوئام بدلا عن التهوّر والطيش، وبذل في سبيل توعيتهم مؤهلاته المعرفية، ومنهج تربيته الرشيدة.

كان رحمه الله كريم الخصال، نقي الصدر، طاهر الذيل، مطمئنّ القلب، جمّ التواضع، رحب الصدر، سليم الطوية، صائب الفكر، واضح الاتجاه، ثابت الجنان، دقيق الفكر، بعيد الغور، عالما ضليعا، وكاتبا خبيرا، ومرشدا حكيما، وقائدا موفّقا.

كان الشيخ رحمه الله ركنا ركينا، وعضوا ممتازا لندوة العلماء، وكاتب السرّ، ورفيقا ملازما بالعلامة الداعية الشيخ أبي الحسن الندوي رئيس ندوة العلماء رحمه الله، وإبن أخته العزيز، الموثوق عليه كل الثقة، وكان رابطة أواصر المحبة بالطلبة القوية الوشيجة، وهو يدرّسهم، ويربّيهم، ويوجّههم إلي الاستقاء من معين العلوم والآداب.

وما أن أكمل دراسته النهائية بدار العلوم التابعة لندوة العلماء إلاّ وقد انخرط بهيئة أعضاء التدريس، وكان غض الإهاب، وفي ريعان الشباب، مارس عمليته التدريسية وبرّز، إلي أن صار شيخ العلم مكتهلا، ترأس ندوة العلماء بعد رحلة خاله المعظم سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي إلي رحمة الله، فزادت مسئولياته، وبالتالي زاد حبه وحنانه، وعمّ لطفه وكرمه، وخاصة مع أساتذة دار العلوم ومع جميع الموظّفين المنتمين بها وبندوة العلماء، يحيي فيهم الأمل، وينفخ فيهم روح العمل، ويجدّد العهد، والواجب الديني، والوظيفة الإدارية، والتنسيقية، والتعليمية، والتربوية التي وُكلت إليهم، ودائما يخاطبهم بتوجيهاته بأسلوب هين لين يمسّ قلوب المستمعين، ويفتح أماهم الأفق الواسع.

كانت صفات التواضع، والسكينة مع هيبة الجاه والعلم سمتا ملازما لشخصية مولانا محمد الرابع الحسني الندوي، وكانت أخلاقه ثابتة له بالطبع، وكان يمتلك قلبا مستريحا، مطمئنّ الحال والبال، وتري ألمعيته علي جبينه، وفطنته في إشراق عينيه، ويبدو حبه وحنانه وكرمه وشفقته في مُحياه الوضاء.حقا كان من المؤمنين الذين مدحهم الدكتور محمد إقبال:

“المؤمنون يعيشون في هذا الكون كالشمس ساطعة، إن غابت في الشرق سطعت في الغرب، وإن غابت في الغرب سطعت في الشرق”.

قاد رحمه الله في الهند المسيرة الفكرية، والإصلاحية والدعوية والعلمية والاجتماعية، وحاول الحفاظ علي الأمة الإسلامية الهندية طيلة حياته، وخاصة بعد وفاة خاله العلامة المفكر الإسلامي الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله.

فكانت شخصيته كمؤسّسة متنوعة الأعمال، مترامية الأطراف، فقد عاش رحمه الله مرشدا حكيما، ومفكرا معتدلا، وعالما محبّبا، ومعلما ناجحا، وقائدا مجمعا عليه، وكاتبا بارعا، وإداريا فطنا، وداعية مؤفّقا، وأبا شفوقا، وعَلَما من أعلام العصر الراهن، وإنسانا يتّسم بالكرم، والتواضع، ودماثة الأخلاق، وبعلمه وباتزانه الفكري، وبإخلاص عمله.

أدّي دورا مثاليا في مجال التعليم والتربية، واستعرض الأحوال المعقّدة، والقضايا التي أحاطت بالمسلمين بالذات كما يحيط الصياد مصائده بالمكر والختل والخداع، فعالجها الشيخ وزملاؤه، ونال تقديرا كبيرا من معاصريه، وأحرز نجاحا باهرا في جهوده ومآثره.

غربت شمس حياته، ولبي نداء ربه في 21 من شهر رمضان المبارك 1444هـ الموافق 13 أبريل 2023م ما بين الظهر والعصر، إنا لله وإنا إليه راجعون، وترك في نفوس محبيه رزءا لا تنتهي حرقته، ولهبا في النفوس لا ينطفئ إلا بجميل الصبر، وحسن العزاء، فلا نقول هنا إلاّ ما قال رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم لإحدي بناته وقد مات لها إبنها: “إن لله ما أخذ، وله ما أعطي، وعاش عند أبويه، وعند أولاده وذويه لأجل مسمّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بقاء إلا لله، فعظم الله أجرك”.

وكما قال صلى الله عليه وسلم وقد دخل علي ابنه ابراهيم رضي الله عنه، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلي الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم أتبعها بأخري، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون”. (رواه البخاري).

أيها الفقيد الراحل! أحسن الله تعازي بعضنا لبعض، وألهم أهلك وذويك، ومحبيك الصبر والسلوان، وغفر لك، وعظم أجرك، وتغمدك بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم أرزقنا الصبرالجميل، وخفف عنا حزننا، وهون علينا مصيبتنا!!! ولا ريب أنّ الصبر مرٌّ، ولكن فيه شفاء، وقد قال أبو العتاهية:

واصبر لكل مصيبة وتجلّدِ

واعلم بأن المرء غير مخلَّدِ

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتي القيامة يفقَدِ

وإذا أصبتَ مصيبة تشجي بها

فاذكر مصابك بالنبي محمّدِ

حين أكتب هذه الكلمات أبدي عن بعض مشاعري، وأبثّ عن بعض معانيك الصادقة، وصفاتك المتميزة، أكتبها بقلم كسير، وقلب جريح، ولا أقصد بذلك المدح والثناء، وإنما أقصد بالاعتراف بصنيعك الجميل، تذكرة لمن بعدك، ولكي تعيها أذن واعية. عشت أربعة عقود من حياتك منذ 1980م من القرن الماضي إلى أن وفّاك الله، وكنت تتابع مشهد العالم الإسلامي المأساوي، وكان يعاني القضايا المريرة، وتمر بأمثالك الأيام بقسوتها، وتشتد الفتن في ديار المسلمين، تهاجم عليها الذئاب، وتتجمع قوي الشر من كل حدب كما يتداعي الأكلة علي القصعة، ويغيب عن العالم الإسلامي الرواد الحكماء، والرعاة الأمناء، فكنت من بعدهم الخلف العدول لسلفك الصالح.

لقد وهبت نفسك للإسلام منذ مارست الحياة، وخضتَ في غمار الحياة، وكنت صدوقا مع ربك، ومع نفسك، وذويك، وأبناء أمتك، لم تتغير عن موقفك الصلب مع تغير الظروف، كانت شخصيتك واضحة، وكانت اتجاهاتك معلومة مقروءة، وكانت جهودك مرئية مسجّلة. وستنمو ثمرات فكرك، وأثر جهدك المتواصل مع مضي الزمن، وسيحصد العالم الإسلامي مما غرست، ويقطف الثمار اليانعة مما زرعت إلي ما شاء الله، وكل ما يأتي من الله فلن يكون إلا جميلا. رضي الله عنهم ورضوا عنه، والله هو المنعم الوهاب، وهو أرحم الراحمين.

×