هيهات لا يأتي الزمان بمثله!

مدرس مثالي فقدناه
9 سبتمبر, 2023
محمد الرابع الحسني الندوي حارس الإسلام والعربية في شبه القارة الهندية
9 سبتمبر, 2023

هيهات لا يأتي الزمان بمثله!

سعيد الأعظمي الندوي

فأجأنا هذا النبأ المفجع وملأنا كمداً وغماً أن سعادة أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، ظهر يوم الخميس في 21/ رمضان سنة 1444هـ، الموافق 13/ أبريل 2023م، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الشيخ نازلاً في دار الضيافة لندوة العلماء منذ أسبوع لمرض عادي، وكان يشكو النزلة والحمى كعادته في هذا العمر، وما كان يُخشى أنه سيفارقنا على عجل، وقد كنت عنده بعد صلاة الظهر في ذلك اليوم، وكان مضطجعاً على فراشه، لا يتكلم شيئاً، كأنه مغشي عليه، فما إن وصلت إلى البيت حتى سمعت هذا النبأ الحزين، المفتِّت للأكباد، وقلت بلسان الشاعر أوس بن حجر:

أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

لا شك أن الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي كان خليفة إمامنا ومربينا الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، وقد خلفه في جميع الشئون العلمية والإدارية في ندوة العلماء، وكان موفقاً كل التوفيق في أعماله ونشاطاته، ذلك لأنه تربى على يديه، ودرس عليه، ورافقه في سفره وحضره، وحله وترحاله، وقد نال من شفقته وعنايته ما جعله جديراً بالمؤهلات العلمية والدينية، وكان الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي يجمع في شخصيته صفات متنوعةً ومزايا مختلفةً، فكان في جانب عالماً ربانيا، وقائداً دينياً، وأستاذاً شفوقاً، وواعظاً قديراً، وصحافياً بارعاً، وإدارياً خبيراً. وفي جانب آخر كان متميزاً بمكارم الأخلاق، إنه رأس ندوة العلماء، وقاد هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند، وأشرف على هيئة التعليم الديني لولاية أترابراديش، كما راقب عن كثب نشاطات وفعاليات رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وكانت مشوراته السديدة، وأقضيته المبرمة تقود الأمة الإسلامية الهندية على خطى حثيثة، وكان سكوته مثل البحر، وتواضعه مثل الأرض، وقوته وصلابته مثل الجبل، وعلو همته مثل السماء، ففاق بهذه الميزات بين أقرانه، وليس في عصره من يشاركه في هذه الصفات.

كانت رسالة حياته الدعوة والإصلاح، وبناء الإنسانية، فاستخدم لذلك طرقاً شتى من التأليف والوعظ والتدريس والصحافة، وكان مطلعاً على نفسيات المستمعين والمخاطبين، وخبيراً بأحوال الأمم والشعوب، وقد زار البلدان، وجال في الأقطار، ورأى أوضاعها ودرسها دراسةً واعيةً، فكانت كلماته وخطبه حول الموضوع حديثًا عن تجارب موسعة، فكل من زاره أو لقيه أو سمع كلامه تأثر به للغاية.

كانت مجالسه العلمية والإصلاحية تعقد بعد صلاة العشاء في دار الضيافة لندوة العلماء، يحضرها أساتذة الدار وطلابها، وكنت أيضاً من المستمعين إلى هذه المجالس، وهذه السلسلة ليست حديثةً من نوعها، فقد كان الإمام العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي يعقد أمثال هذه المجالس لإفادة الأساتذة والطلاب وعامة الناس، وكان الناس من المثقفين والعلماء في مدينة لكناؤ يحضرون هذه المجالس الدينية، ويستفيدون منها، وظل على هذا الدرب الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي بعد ما عُين رئيساً لندوة العلماء، فأحياناً تُقرأ كتب علمية ودينية في هذه المجالس، وأحياناً يقدم أمام الحضور ما بدا له من الأمور الدينية والإصلاحية.

وكان من فضل الله تعالى على نفسي أني التحقت بدار العلوم لندوة العلماء كطالب علم منذ 1952م، ومن أول يوم تعرفت على أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي، ثم توثقت هذه الصلة به إلى آخر أنفاس حياته بحمد الله وفضله، ويغطي ذلك مدة زمانية حوالي 75 عاماً، وكنت خلال هذه المدة أمام أستاذنا كمحب وتلميذ ومسترشد له، أتشاور معه، وأساعده في شئونه العلمية والإدارية، وقد درست عليه في السنة الأولى للتخصص في الأدب العربي كتاب رنات المثالث والمثاني لأبي الفرج الأصبهاني، (وهو تلخيص للأغاني)، وكان أسلوب أستاذنا أسلوباً جميلاً رائعاً، حينما يشرح الكلمات والمفردات فيخوض في فقهها وباطنها، وردت مرةً خلال الدرس كلمة: حِين في معنى الوقت، فقال: حان يحين حِيناً معناه قرب، مثلاً: حانت الصلاة، وحين جمع أحيان، قال الشاعر العربي:

وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

وحان يحين حَينا بفتح الحاء في معنى: هلك، والحَين بفتح الحاء: الهلاك والدمار، قال العرب: نحن في يد الحَين بين البحرين، وقالوا: حيَّنه الله: أهلكه الله تعالى.

وحينما بدأ أستاذنا تأليف كتاب منثورات من أدب العرب فكلفنا أن نقوم بشرح الكلمات الصعبة الواردة في هذا الكتاب، فقمت بهذا الواجب امتثالاً لأمره، ولا يزال هذا العمل في حاشية الكتاب، ولا ننسى أبداً مساهمته وتشجيعه البالغ على إصدار مجلة البعث الإسلامي الصادرة من ندوة العلماء منذ عام 1955م، فإنه أفادنا (أنا وزميلنا الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله) بتوجيهات قيمة، وما زالت المجلة تنال عطفه ودعمه العلمي منذ أول يومها، ففي ملفاتها نشرت له مقالات أدبية، بحيث لو جُمعت في مجموعة لأخذ ذلك صورة كتاب أدبي قيم، وفي آخر سنوات حياته لا تزال تنشر مقالاته حول مواضيع متنوعة إما مترجمةً أو أصلاً تعميماً لنفع القراء.

صدرت صحيفة الرائد باقتراح أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي، وهو المؤسس ورئيس تحريرها الأول، فإنه جعلنا من مساعديه ومستشاريه، وكلفنا أن نكتب كلمةً أو قصةً في عمود الأطفال، وحينما أصبح الرئيس العام للصحيفة جعلنا نائب الرئيس لها، والحمد لله على ذلك، ولا أزال أكتب في صحيفة الرائد منذ أول يومها، وقد خصص لنا أستاذنا عموداً باسم: كلمة الرائد، وهو عمود معروف في الصحيفة، يعرفه كل من يقرأ الصحيفة أو يطالعها.

كم أذكر لأستاذنا من مآثر وحسنات في حياته، فإن حياته حافلة بالإنجازات العلمية والأعمال الجليلة، ومن سعادة حظي أنه قدم لعدد من كتبي ومؤلفاتي، ولا سيما “شعراء الرسول في ضوء الواقع والقريض” الذي كان مشرفاً عليه إلى إنجازه لنيل شهادة الدكتوراه، وقد شرفني أن أقدم لبعض كتبه ومؤلفاته، فكتبت تقديمات وكلمات تعريف بعدد من مؤلفاته، وهي تطبع وتنشر من دور النشر والتوزيع، وقد كتبت شيئاً حول مؤلفه القيم الذائع الصيت المعروف: “الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية”:

“ظهر في كل عصر وزمان علماء العربية بدراسة القرآن الكريم والتعمق في معانيه ودقائقه، وتلقاه الناس بغاية من الاحترام والإعجاب والتقدير، واستفادوا مما جاء فيه من إشارات وبيانات لنزول السور والآيات وشرح مفاهيم التشريع والتطبيق العملي الذي احتوى عليه كلامهم، وقد كان في الزمن الأخير مؤلفات كثيرة عن فضل كتاب الله تعالى وعظمة بيانه وشرفه وتطابق معناه مع طبيعة الإنسان والكون، فكان لسماحة العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي كتاب حول انطباعاته عن كتاب الله تعالى في ضوء أقوال وآراء علماء التفسير، وما فيه من دعوة تبليغية إلى دين الإسلام والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما فيه من أفكار وآراء علمية وبيانية تعين على فهم خلود الدين وشموليته، وتثير في النفس عواطف الحب والاستسلام لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم وشريعته الباقية النامية الخالدة” (تقديم الكتاب 31 – 33، طبع دار القلم).

نالت ندوة العلماء في حياته صيتاً حسناً، وشهرةً فائقةً، وقد وصل صوتها إلى جميع القارات، وتوسعت دوائرها، وتشبعت، حتى ازداد عدد خريجي دار العلوم لندوة العلماء في عهده بكثرة كاثرة، وكان يركز كثيراً على تربية الطلاب ليتحلى الطلاب بالثقافة الدينية، فيجمع الطلاب أحياناً في جامع ندوة العلماء باقتراح مني كمدير لدار العلوم، ويخطب خطباً وكلمات نابعةً من قرارة القلب، تؤثر تأثيراً كبيراً، وقد كان يتخول أساتذة دار العلوم ومدرسيها بالموعظة والنصح، لكي يكونوا نشطاء في إعداد الطلاب، وتعليمهم وتربيتهم، ولا يتغافلوا عن وظائفهم ومسئولياتهم، وكان عهده في رئاسة ندوة العلماء عهداً زاهراً، بدأت رئاسته لندوة العلماء بعد إمامنا العلامة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، وكان على طرازه، لا يأخذ من الرواتب المادية شيئاً، غير أنه وقف حياته كلها لندوة العلماء وأعمالها، وكان يزهد في حطام الدنيا، وكان مثالاً للسلف الصالح، وكان يقضي حياةً نموذجيةً بسيطةً حتى جاءه الأجل المحتوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وحينما انتشر نعي وفاته سارع الناس إلى رحاب ندوة العلماء، وقررت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة التراويح، فجاء محبوه وتلامذته وعامة الناس للحضور في صلاة الجنازة، وتم أداء صلاة الجنازة في الساعة العاشرة والنصف ليلاً بإمامة كاتب هذه السطور، ثم نُقل جثمانه إلى زاوية الشيخ علم الله الحسني وصُليت عليه صلاة الجنازة الأخرى صباحاً في الساعة الثامنة، ثم وري جسده في القبر: على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه بعض انطباعاتي حول أستاذنا وفقيدنا، وقد صدق الشاعر:

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

(مجلة “البعث الإسلامي”، العدد الخامس، المجلد التاسع والستون، يونيو 2023م)

×