آخر الكبار كما عرفته
7 سبتمبر, 2023مدرس مثالي فقدناه
9 سبتمبر, 2023ذكريات وخواطر
محمد عثمان خان الندوي
ولد شيخنا -رحمه الله-في 6/ من جمادى الأولى عام 1348هـ المصادف 2/ أكتوبر عام 1929م في دائرة الشيخ علم الله الحسني بمديرية رائي بريلي في الولاية الشمالية أترابـراديش، الهند، ونشأ في أسرة شريفة كريمة، وحصل على التعليم الابتدائي في رعاية والدته وجدته الصالحة، ثم انتقل إلى لكناؤ بعد التعليم الابتدائي والتحق بدار العلوم لندوة العلماء لكناؤ.
لقد كان شيخنا قائدًا حكيمًا وأديبًا بارعًا وبحرًا متلاطمًا بأمواج العلم والأدب، وبصيرًا بالأمور، وخبيرًا بأحوال الأمة الإسلامية، وخاصة أنه كان ملمًا بأحوال المسلمين وما يمرون به من أحوال وظروف صعبة وقاسية، وكان يتفاعل مع كل ما يهم الأمة الإسلامية، ومن يقرأ كتبه ومقالاته يري نماذج حكمته التربوية وبصيرته النافذة بقضايا الأمة الإسلامية، وترك من ورائه الثروات العلمية والادبية، وكان يكتب الحق ويدافعها بكل في وسعه، وكذلك كان دائماً يركز عنايته على تربية الطلاب لكي يتحلّوا بالثقافة الدينية والتربية الإسلامية.
أذكر ما استفدته من شيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي مباشرة، فعندما دخلت في السنة الرابعة النهائية من العالمية، درست عليه كتابه “تاريخ الأدب العربي بين عرض ونقد” أتذكر جيدًا طريق تدريس شيخنا شعر النقائض للجرير والفرذدق اللذين نشأت بينهما المنافسة والتنافس والتحاسد، واستطار بينهما الهجاء عشر سنين متوالياً، وقد سلط شيخنا (رحمه الله تعالى) الضوء على هذا النوع الشعري الجديد بالتفصيل، وبطريقة مثيرة بأن يرسم كل شئ في أذهاننا، وأيضا طرح علي شيخنا (رحمه الله تعالى) سؤالاً حول هذا النوع الجديد في الاختبار الشفوي.
وبعد ذلك درسنا “تاريخ الأدب العربي” لأحمد حسن الزيات ودواوين شعراء العصر الإسلامي من شيخنا (رحمه الله تعالى) كان الشيخ كاتبًا عظيمًا ومليئًا بالعزة والكرامة الإسلامية، وتظهر هذه الحمية والغيرة على وجه الشيخ رحمه الله أثناء تدريس القصيدة “وامعتصماه” التي قرضها أبو تمام في مدح الخليفة معتصم بالله عند فتح العمورية التي تعد من أهم وأكبر الفتوح في التاريخ الإسلامي.
وكانت عنده قدرة كبيرة على أشعار اللغة العربية بالإضافة إلى الاطلاع على عصرها الإسلامي أو الجاهلي، وهو يفسر ويترجم الأشعار والقصائد بلغة سهلة للغاية بأن يرسم ويرسخ كل الألفاظ والمعاني على القلب والذهن فورا، والميزة الكبرى لترجمته هي أن معنى الكلمات والألفاظ المستخدمة في القصائد والأشعار يتضح تمامًا، ولم تكن هناك أي حاجة للتفكير بعمق.
وأرى أن الشريف الرضي كان من الشعراء المحبوبين والمفضلين لدى شيخنا رحمه الله تعالى، وكانت له ملكة خاصة في علم الفقه وعلم الفرائض مع قرض الشعر، وكان شاعرًا شجاعًا وغيورًا وكاتبًا عظيمًا. وقيل عنه: لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة.
وهذا وقد قدر الله لي أن أجالس العلماء الربانيين والمفكرين، وبسبب صلتي بالشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي (رحمه الله تعالى رحمة واسعة) أذهب إلى رائى بريلي في شهر رمضان المبارك، فيسألني شيخنا العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي عن الندوة وأحوالها، وأحياناً يسألني أسئلة تاريخية وعلمية، ومرة طلب مني أن ننشد له بعض أشعار الشاعر الشريف الرضي التي أعحببتني فأنشدتُ ثمانية أو عشرة أبيات، ثم سأل عن سبب إعجابي بهذه الأبيات.
أما العلاقة التي كانت بيني وبين شيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي فأعد نفسي من المحظوظين في دار العلوم لندوة العلماء وكنت فخورًا بها، بأن أرتبط بهذه العائلة الكريمة منذ دراستي حتى يومنا هذا. وفي الحقيقة كان هو مستشاري الحقيقي في كل مناسبة في حياتنا سواء كانت مناسبة فرح أو زواج أو حزن أو مرض أو ألم، وعندما كنت أذهب إلى رائي بريلي في رمضان المبارك في زمن الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وأذهب إلى دار الضيافة بعد الفجر قبل المغادرة للقاء الشيخ رحمه الله كالناس الآخرين فيعطيني العيدية، واستمرت هذه السلسلة حتى عامين قبل مرض الشيخ رحمه الله، وأحيانًا يتضاعف عيدنا عندما يعطيني الشيخ الندوي العيدية، ومن بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، نحن نحصل على هذه العيدية بإستمرار من الأستاذ الرابع الحسني الندوي.
في عام 2012م عندما مرضت ولم أستطع الذهاب إلى رائي بريلي بسبب المرض، فأرسل اليّ العيدية مع أحد رفقتي. واستمرت سلسلة مرضي تقريباً لمدة تسعة أشهر أو أقل وأكثر، وخلال هذه الفترة يساعدني الشيخ بكل طريقة ويواسني ويقدم لي بإستمرار الدعم المالي بصمت. ويقال أن العمل بنصيحة الكبارالناصحين لا يخلو من الفوائد وجربتُ هذا خلال نصيحة الشيخ رحمه الله في مرضي. عندما أرسل شيخنا (رحمه الله تعالى) تلميذه الموهوب المطيع البارع وهو أخي الصغير وصديقي العزيز، الأستاذ محمد وثيق الندوي (أستاذ اللغة العربية دار العلوم لندوة العماء ومدير التحرير لصحيفة الرائد) إلى الطبيب المشهور في كلية الطب لكناؤ للإستشارة في مرضي، واتصل بالطبيب في هذا الصدد بنفسه.
وفي عام 1984م عندما كان الأستاذ رحمه الله عميد كلية اللغة العربية وآدابها، كنت بحاجة إلى وثائقي وشهادتي لغرض العمل في الدول العربية، وفي ذلك الوقت تُصدر هذه الأوراق بأمر الأستاذ المحترم، فذهبت مع طلبي إلى الشيخ رحمه الله، ووقع الشيخ على طلبي لكنه قال لي جملةً تدور في ذهني حتى الآن ” هل أنت تذهب أيضا”.
عاش شيخنا (رحمه الله تعالى) 94عامًا كمعلم عظيم، وقائد حكيم، وقضى نحو 75عامًا في القراءة والتعليم والتعلُّم، في الحقيقة وقف حياته كلها للدين الإسلامي وتربية النشء الجديد ونشر الدين والعلم والأدب، وقبل وفاته ببضعة أشهر، قال في مجلس له بعد صلاة العشاء في دار الضيافة بدار العلوم لندوة العلماء عن العلم: العلم نعمة، تنشأ منه القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، لأن العلم مرتبط بالعقل، ويزيد من الذكاء، وكلما يزداد الارتباط بالعلم والتعلم، تزداد ثروة الفهم والتفكير، ويكون العقل والفكر نشطًا، كما تزداد بالدرس والتدريس العقل والفهم، ويتيسر المضي والتقدم الى المستقبل، وأضاف قائلاً: إن المطالعة شيء مهم، لأنها يساعد الإنسان في الحصول على المعلومات المهمة حول تاريخ الأمم، وتزداد العزة والشرف، ويصبح الانسان محترمًا وواعيًا. وقال: التعليم مهم للإنسان مثل الغذاء للصحة الجسدية، ومراعاة هذه الأشياء ولتعزيز المهمة التعليمية للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وهو لا يشجع فقط على افتتاح كتاتيب ومدارس إسلامية في الهند، بل يقدم أيضًا دعمًا ماليًا ومعنويًا للمدارس المنتشرة في جميع أنحاء الهند، وقال في إحدى المناسبات متحدثاً عن التاريخ: يجب مطالعة التاريخ لأنه يعطي معرفة أحوال الأمم ويساعد في الرحلة إلى المستقبل، التاريخ والأدب مهمَّان جدًا للتطور والتقدم لأي أمة وشعب، وعبر التاريخ نحن نعرف ماذا حدث مع أمتنا وشعبنا، وماذا حدث مع أعدائنا في الماضي، ويحصل الانسان من خلال الأدب طريق التحدث والتكلم. وأشار إلى شيْ مهم عن التاريخ، وقال: يتغير التاريخ بأكمله بتغيير الاسم، لأن الجيل الجديد يطّلع على التاريخ خلال الاسم، وعندما يتغيّر الاسم نفسه يبدو كأن التاريخ نسي أيضا.
انتقل إلى رحمة الله تعالى أستاذنا العلامة محمد الرابع الحسني الندوي في دار الضيافة، بدار العلوم لندوة العلماء لكناؤ (الهند) بعد صلاة الظهر في الساعة الثانية والنصف يوم الخميس 22/ رمضان المبارك 1444هـ/13/أبريل 2023م، ونسأل الله تعالي أن يكون من عتقاء شهر رمضان المبارك، وأن يحشره مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.