المنظمات الصهيونية (1)
20 مايو, 2025العلوم ثلاثة من حيث النضج والاحتراق
22 يونيو, 2025جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (3/الأخيرة)
بقلم: د/صاحب عالم الأعظمي الندوي(*)
(*) باحث في تاريخ الهند وجزيرة العرب والخليج
والكتاب الثالث الذي نقله جون إلى اللسان العربي سماه “جوامع علم الرياضي”، وهو ترجمة مختصرة وجامعة لكتاب كبير بعنوان (A Course of Mathematics) للعالم والرياضي البريطاني تشارلز هاتون، الشهير في علم الرياضيات. ويبدو أن جون قد اختار مواضيع معينة من الكتاب ووضعها في ترجمته ونشرها في أجزاء عدة. وقد أنجز هذه الترجمة في عام 1835م، وتشمل الترجمة العربية مواضيع متنوعة من مقررات هاتون في الرياضيات، مكيَّفة لتلائم الباحثين الناطقين بالعربية. يتضمن النص مبادئ رياضية أساسية، بدءًا من الرموز الحسابية وصولًا إلى جداول القوى والجذور، مصممًا ليكون في متناول جمهور البلاد العربية والإسلامية في ذلك الوقت. ويجدر بنا إيراد مقالة قصيرة من المقدمة العربية المترجمة لمعرفة أسلوبه في ترجمة النصوص الرياضية: “نقول إن علم الحساب هو نوع من أنواع العلم الرياضي باحث عن خواص الأعداد، فالبحث عن الأعداد المطلقة الصحيحة يُقال له الحساب المطلق، أي حساب الصحاح، والبحث عن أجزاء الأعداد، أي الأعداد المضافة، يُقال له حساب الكسور. الوحدة هي صفة تعرض الأشياء لقيامها بشيء يحمل على ذلك الشيء إنه واحد، وهو مبدأ الأعداد، مثل رجل واحد وكرة واحدة وسهم واحد. العدد هو إما واحد أو مؤلف من وحدات متعددة، كرجل واحد وثلاثة رجال أو عشرة رجال. فالصحيح هو عدد غير مضاف إلى عدد آخر مثلًا أحد وعشر ومائة، والكسر بخلافه، فإنه مضاف إلى عدد آخر كالنصف والثلثين وثلاثة أرباع، فاتضح الفرق بين النوعين…”
ويتبين مما ورد في سيرة جون أنه أراد بنقل هذه الكتب الطبية والعلمية إلى اللسان العربي أنْ تُقرَّر موادَّ علمية في مناهج المدارس التي كانت العلوم والرياضيات تُدرس فيها باللغة العربية والفارسية، فعلى صعيد العلم الطبي في الهند أسهم جون بمعالجة ضعف التعليم الرسمي بين المعالجين المحليين، وقد اقترح إنشاء مدرسة طبية لتدريب الممارسين المحليين وتعليم العلوم والطب باللغة العربية والفارسية، وقدَّم خطته للحاكم العام هاستينغز، الذي وافق على تأسيس مؤسسة في كلكتا لتعليم الشباب مبادئ الطب الأوروبي، وتأهيلهم معاونين في المستشفيات. غير أن نهاية مسيرته في هذا المجال كانت مصدر إحباط شديد له، فقد استُبدِلت هذه المدرسة الطبية بكلية كلكتا الطبية التي كان التعليم فيها باللغة الإنجليزية، مما أدى إلى استبعاد جون من المشاركة فيها.
ومع ذلك، لم يفقد جون الأمل، فاقترح تدريس المواد الطبية باللغات السنسكريتية والعربية والفارسية في هذه الكلية الجديدة، مما ضمن توافق التعليم مع التقاليد المحلية مع دمج المعرفة الطبية الأوروبية. وقد حظي اقتراحه بالموافقة، وبدأ جون في إدخال أساليب تدريس مبتكرة تدريجيًا، مما أتاح للطلاب الهندوس، الذين كانوا يتجنبون سابقًا دراسة التشريح العملي، التفاعل مع هذه المواد دون تردد. شكّلت هذه النقلة تحولًا كبيرًا في العلاقة بين المتعلمين المحليين والمعرفة الأوروبية، وأسفرت عن ثورة ملحوظة في التعليم الطبي في بنغال. بالإضافة إلى ذلك، عند إنشاء الكلية الأنغلو–هندية لتدريس اللغة الإنجليزية والأدب والعلوم الأوروبية، أدى جون دورًا حاسمًا في لجنة التعليم من خلال ضبط المناهج وصياغتها. وقد أضاف فصلًا خاصًا لمادة الرياضيات، مما نقل التعليم من المستوى الأساسي إلى مواضيع أكثر تقدمًا، حيث أظهر بعض الطلاب مهارات مدهشة في هذا المجال.
ومع انشغاله بدراساته في اللغات والرياضيات، ظلّ جون ملتزماً تمامًا بواجباته الطبية في بتنه، وهي مدينة مكتظة تواجه مشكلات صحية واسعة بسبب الفقر وضعف الخدمات الطبية. أدرك جون نقص المرافق الطبية وتردد السكان تجاه الممارسات الطبية الأوروبية، فبادر إلى إنشاء مستشفى خاص. وبفضل تعامله الحساس واحترامه للقيم الثقافية، إلى جانب خبرته الطبية، كسب جون ثقة السكان، ما حول المستشفى إلى مركز أساسي للرعاية الصحية.
إلا أنَّ تلك المشاغل الطبية والعلمية لم تُنسِ جون واجباته الدينية، فكان الكتاب المقدس دائمًا على طاولة دراسته ويحمله في محاضراته، وقد ترجم كتابًا دينيًا إلى اللغة العربية أيضًا بعنوان “كتاب الصلوات العامة وتدبير الأسرار المقدسة وما غيرها من رسوم الكليسة وآدابها” طُبع في مطبعة المدرسة الأسقفية بكلكتا عام 1838م. والظاهر أنه حاول تشجيع دراسات مقارنة الأديان والمذاهب، واتسم نهجه في مشاركة الإنجيل مع طلابه المسلمين والهندوس بأسلوب مدروس ومحترم، في حين كان يعارض الوثنية معارضة شديدة.
وحقق جون كتابًا طبيًا آخر بعنوان “الفصول الأبقراطية في الأصول الطبية: من تصانيف الحكيم الحاذق اللوذعي والطبيب الفائق الألمعي أبقراط الرومي المعروف بالشيخ القوسي في اللسان اليونانية، ترجمها إلى العربية أبو زيد عبد الرحمن حنين بن إسحاق بن حنين، في عهد الخليفة المتوكل”. وقد حققه جون بمعاونة كلٍّ من: المولوي سليمان، والمولوي غلام مخدوم، والمولوي عبد الله، وطُبع في المطبعة التعليمية بكلكتا عام 1832م. وعلى صعيد طباعة الكتب العربية والفارسية في المطبعة الحكومية بكلكتا، حاول جون بعد أنْ أصبح مشرفًا عامًا عليها أنْ تنتج كتبًا مدرسية بأسعار معقولة للمدارس الأهلية، وتولى تحرير نصوص باللغات العربية والفارسية والهندية والبنغالية والسنسكريتية، وتحت إشرافه وإدارته استطاعت المطبعة تقليل تكاليف الطباعة ونشرت كتبًا قيِّمة، منها: “الفتاوى الهندية” باللغة العربية في ستة مجلدات، و”موجز القانون”، و”فصول بقراط” وغيرها. كانت تلك المرحلة نقطة تحوُّل حاسمة في مسيرة جون، حيث كرَّس سنواته المتبقية في الهند لتعزيز الوصول إلى التعليم وتطوير الفكر. ووافته المنية في 5 مارس عام 1837م في جيرسي بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والفكري.
في ضوء ما سبق، يتبين أنَّ عمل جون العلمي فريد في مساره، في البداية كانت أبحاثه تتماشي مع الاهتمامات العلمية العامة، إذ سعى إلى استقصاء إنجازات الثقافتَين الإسلامية والهندية في مجالَي الطب والرياضيات للعلماء الأوربيين، ومع مرور الوقت تحوَّل تركيزه واهتمامه تحولًا كبيرًا، ففي سنواته الأخيرة في البنغال كرَّس جون نفسه لمهمة مختلفة تمامًا، هي ترجمة المعرفة العلمية والتعليمية الأوروبية إلى اللغات الشرقية المهمة لفائدة المجتمع الهندي. كانت هذه المهمة، كما اعترف هو نفسه، شاقة دون تقدير ماديٍّ أو معنويٍّ؛ لكن شعوره بالواجب، وإيمانه بأنَّ الترجمات المتاحة أدواتٌ أساسية لتقدُّم التعليم المحلي جعلت إسهامات جون في التعليم الأنغلو–آسيوي، جديرة بالتقدير. فعلى الرغم من التحديات التي واجهها، تركت جهوده تأثيرًا ملموسًا على المجتمع الهندي، حيث جعل المعرفة العلمية الأوروبية متاحة للناطقين باللغات المحلية، مما عمّق فهم السكان الأصليين للفكر والمنهجيات الغربية. يتجلى من خلال هذه السردية أن جون كان مدرسًا بارعًا، وطبيبًا حاذقًا، وباحثًا مخلصًا، ومترجمًا أمينًا. ومع ذلك، لم تحظَ إسهاماته في التعليم التطبيقي وعلم اللغة بتقدير كافٍ من السلطات البريطانية. وتعكس تجاربه التحديات التي واجهها الأفراد المخلصون في السياقات الاستعمارية، حيث كانت المصالح الشخصية غالبًا ما تطغى على الجدارة والخدمة. ورغم معاناته الصحية، تُظهر مساعيه الأدبية حياة فكرية نابضة سعت إلى جسر الفجوات الثقافية عبر اللغات والتعليم. وإنَّ تدوين سيرة ذاتية لحياته وإسهاماته يعمّق فهمنا له ولغيره من الشخصيات التي أسهمَت في تعزيز الوجود البريطاني في هذه البلاد الشرقية والآسيوية.
الهامش:
1– نُشر هذا المقال لأول مرة بعنوان “تيتلر ونقله الكتب العلمية والطبية إلى العربية” في دورية أفق الشهرية، الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت، في عددها الصادر بشهر ديسمبر عام 2024م.