من صناعة الموت إلى صناعة القرارات

الوحدة الإسلامية هي المخرج الوحيد من الأزمات
20 مايو, 2025

من صناعة الموت إلى صناعة القرارات

د. محمد وثيق الندوي

استوحينا هذا العنوان من مقال مثير حرَّره رئيس تحرير هذه الصحيفة “الرائد” الصحفي الكبير والمفكر الإسلامي الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي – رحمه الله – باسم “من صناعة الموت إلى صناعة القرارات” في مجلة “البعث الإسلامي”، ثم نُشِرَ في رسالة مستقلة لتعم الفائدة، واستعرض فيه دورَ القادة المسلمين والعرب في الماضي والحال، ومكانة الأمة الإسلامية التي تاريخها حافل بالمآثر والبطولات في سبيل الاحتفاظ بالانتماء إلى الإسلام، والتضحية والاستماتة في سبيله، والغيرة والأنفة، والإباء والشهامة، في حماية الإسلام، وكسر شوكة أعدائه، ولكن تغيَّرت اليوم القيمُ والمقاييسُ، وانقلبت الموازين، وكثرت منابر القول ومراكز الدعاية والدعوى، وتدفَّقت الندوات والمؤتمرات، والحلقات واللقاءات، في الغرف والقاعات المكيفة، فذهبت البطولة والجرأة، وعمَّ الكلام الفارغ، والبيان الصاخب، وحلت الانتماءات إلى الجماعات والحركات، والأحزاب والدعوات، والأفكار والمذاهب الفقهية،محل الانتماء إلى الإسلام، وحلَّ الحبرُ على الورق، محلَّ الدم في سبيل الشرف وكلمة الحق.

والواقع أن الحكام والملوك والقادة في الماضي كانوا يهبُّون كالأسود لدى انتهاك حرمة أو خذلان مسلم،أو وقوع هجمات وغارات على المناطق أو المقدسات الإسلامية،يهزمون الأعداء شرَّ هزيمة،أمثال الخليفة العباسي المعتصم الذي هزم الإمبراطور البيزنطي في عمورية، ونور الدين الزنكي والقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي اللذين قصما ظهر الصليبيين، وأوقفا الزحف الصليبي إلى البلدان الإسلامية،والملك الظاهر بيبرس الذي هزم التتر في وقعة الفرات،والعثمانيين في العهد الأخير الذين أذاقوا أوروبا مرائر وهزائم، و… و…. و….

وأما اليوم فقد تغيَّر الوضع، وانقلب الأمر، فكلما يجدُّ أمر، أو تحدث حادثة،أو مشكلة، أوقضية، بل تقع أزمة أو مأساة يذهب ضحيَّتَها المسلمون، يُسْرِع القادة والحكام إلى إصدار بيانات صاخبة في الصحف،وكلمات ودعايات فارغة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وإعلانات براقة عن تقديم المساعدات، وعقد ندوات ومؤتمرات، وإقرار قرارات وتوصيات،أو توجيه إدانات وتنديدات بما يمارسه أعداء الإسلام والمسلمين من هجمات علنة، وانتهاكات صارخة، وأعمال قتل وإحراق، وتدمير وهدم فحسب، ثم يقتنعون بأنهم أدوا واجبهم تجاه قضايا الأمة، فكثرت المؤتمرات والندوات، بل أصبحت موضة سياسية ودعائية وإعلامية، وتكدَّست القرارات، وتجمَّعت التوصيات، وتراكمت البيانات الفارغة،حول القضايا والمآسي والأزمات والمذابح، مثل كارثة فلسطين وغزة، فهناك أكوام من القرارات، وأكداس من التوصيات، والبيانات المهددة، والخطب الرنانة الطنانة، والكلمات الساحرة الأخاذة، وفاقت تقارير المؤتمرات والحلقات واللقاءات والمحادثات، الحسبانَ، بينما يعيث العدو الصهيوني في فلسطين فسادًا،يقتِّل الأطفال والشيوخ والنساء تقتيلاً بدون هوادة، ويقوم بالإبادة الجماعية،ويقصف قصفًا، ويدمِّر تدميرًا، وأما العمل الصامت الجاد الدؤوب، والجدية والصرامة، والجهد المضني، والتخطيط والتنظيم، والتنسيق والترتيب، وتحديد الأولويات وتوزيع المسئوليات والأعمال،والتضحية والإخلاص في العمل،فهي كعنقاء مغرب، أتذكر بهذه المناسبة ما قاله الشاعر محمود سامي البارودي:

ظَنَنْـتُ بِهِـمْ خَيْـرَاً فَـأُبْتُ بِحَسـْرَةٍ لَهَــا شـَجَنٌ بَيْـنَ الْجَوَانِـحِ لاصـِقُ
وَقَـدْ أَقْسَمُوا أَلَّا يَزُولُوا فَمَا بَدَا سـَنَا الْفَجْـرِ إِلَّا وَالنِّسـَاءُ طَوَالِقُ
أُسـُودٌ لَـدَى الأَبْيَـاتِ بَيْنَ نسَائِهِمْ وَلَكِنَّهُــمْ عِنْــدَ الْهيَـاجِ نَقَـانِقُ
إِذَا الْمَـرْءُ لَمْ يَنْهَضْ بِقَائِمِ سَيْفِهِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ تُحْمَى الْحَقَائِقُ

ويقول الشاعر حافظ إبراهيم معبرًا عن الحسرة على العز الفائت:

لَم يَبقَ شَيءٌ مِنَ الدُنيا بِأَيدينا إِلّا بَقِيَّةُ دَمعٍ في مَآقينا
كُنّا قِلادَةَ جيدِ الدَهرِ فَاِنفَرَطَت وَفي يَمينِ العُلا كُنا رَياحينا
كانَت مَنازِلُنا في العِزِّ شامِخَةً لا تُشرِقُ الشَمسَ إِلّا في مَغانينا
وَكانَ أَقصى مُنى نَهرِ المَجَرَّةِ لَو مِن مائِهِ مُزِجَت أَقداحُ ساقينا
وَالشُهبُ لَو أَنَّها كانَت مُسَخَّرَةً لِرَجمِ مَن كانَ يَبدو مِن أَعادينا
فَلَم نَزَل وَصُروفُ الدَهرِ تَرمُقُنا شَزراً وَتَخدَعُنا الدُنيا وَتُلهينا
حَتّى غَدَونا وَلا جاهٌ وَلا نَشَبٌ وَلا صَديقٌ وَلا خِلُّ يُواسينا

ويقول الشاعر عمر أبو ريشه وهو يعبِّر عن حالة الأمة العربية الحاضرة:

أ لإسرائيل ….. تعلو ….. راية في حمى المهد وظل الحرم!؟
كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التهم؟
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يُلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدوَّ الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيدُ الدرهم

فإن الأمة التي كانت تُعْرف بصناعة الموت، أصبحت اليوم تكتفي بصناعة القرارات، وإن المسلمين الذين قادوا العالم، ولعبوا دورًا رائدًا في إنقاذ الشعوب والأمم من المظالم والعبوديات، وصنعوا التاريخ، وغيَّروا مجرى العالم،وصنعوا الأعاجيب وأتوا بالخوارق، وسخروا القلوب والنفوس، تحوَّلوا اليوم من أمة الجول والصول إلى أمة القول والكلام، ومن أمة صناعة الموت إلى أمة صناعة القرارات بدون عزم وإرادة حقيقية لخوض معركة أو مواجهة عدو، يقول الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي في ختام مقاله الحافل:

” ترى، ينقص العالم الإسلامي الموارد، أو القوى البشرية، أو القادة والعلماء أو الحكام من أصحاب سيادة وحرية،أو شعوب تؤيد قرارات الحكام أو ذخائر حربية؟ كلا! إن العالم الإسلامي غنيٌّ بالموارد، غنيٌّ بالطاقات البشرية، غنيٌّ بالأسلحة التي كدَّسها من كل جهة.

كل ما ينقص العالم الإسلامي (اليوم) هو قوة الإرادة والعمل والصدق، وينقصه علماء مخلصون، وينقصه حكام، تصدق فيهم الظنون.

إن أسلوب الاحتجاج واتخاذ القرارات في الاحتجاج، وقضاء الوقت في التشاور، واللقاءات، أسلوب الضعف، وأسلوب الوهن، وقد جرَّب المسلمون في تاريخهم الطويل أن احتجاجاتهم وقراراتهم لم تحرِّك ساكنًا، ولم تغيِّر موقفًا، وصدق عليهم المثل العربي.

“أوسعتم سبًّا وأودوا بالإبل”.

لقد وصل العالم الإسلامي إلى مرحلة لا يحتاج فيها إلى مصانع أدوات، ولا مصانع أسلحة، فإن الأدوات والأسلحة تتوفر في السوق، وتُشترى بالمال، وقد تكدست في بلاده المختلفة،إن الشيء الوحيد الذي يحتاج إليه هو صناعة الموت، وهو بضاعة  لا تُشترى، وهو البضاعة المفقودة، وهي ضالة المسلم، صناعة صنعت الأعاجيب، وتملكت على خزائن الأرض، وهي مفتاح القيادة، وهي التي أنجبت الأبطال الذين نتمجَّد بهم ونعتزُّ، والذين صنعوا التاريخ، وندين لهم بفخر واعتزاز.”

×