المجتمع الذي يصلح لقيادة العالم
9 يونيو, 2020فرص الغفران في شهر رمضان الصلاة نهر الغفران
9 يونيو, 2020شهر رمضان
قالوا: ما معنى شهر رمضان؟ قلت: هو شهر البركات والخيرات والسعادات والحسنيات، أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ومصدر ما فيه من اليمن صيامه، ومن ثم أمر الله تعالى به: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه”. قالوا: اشرح لنا كون صيامه منبعا للهبات الربانية الجليلة والعطايا الرحمانية العظيمة.
قلت: ذهب عامة العلماء إلى أن مرد بركات الصيام إلى الجوع وتقليل الطعام، قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين:” فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلا ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوي فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء. وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى “إنا أنزلناه في ليلة القدر” ومن جعل في قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب. ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل.
ويؤكده ما ذكره ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة حيث يقول: اعلم أنه ربما يتفطن الإنسان من قبل إلهام الحق إياه أن سورة الطبيعة البهيمية تصده عما هو كماله من انقيادها للملكية، فيبغضها، ويطلب كسر سورتها، فلا يجد ما يغيثه في ذلك، كالجوع والعطش، وترك الجماع والأخذ على لسانه وقلبه وجوارحه، ويتمسك بذلك علاجا لمرضه النفساني.
ويشبه ما ذكراه كلام ابن القيم في زاد المعاد.
قالوا: فهل توافقهم فيما ذهبوا إليه؟ قلت: لا، قالوا: ففسر لنا ردك لقولهم، قلت: حاصل كلامهم أن الصوم عبارة عن الجوع وتقليل الطعام، ومن ثم نرى الإمام الغزالي يحث في شهر رمضان على المبالغة في تقليل الطعام والجوع ليعظم الانتفاع بالصوم وتتضاعف بركته.
قالوا: فما الذي أنكرت من ذلك؟ قلت: إن تقليل الطعام سنة من سنن الأنبياء والمرسلين وسائر الصالحين والأذكياء، وهم من أشد الناس كراهية للشبع، أخرج أبو عيسى بإسناد حسن عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً كان يأكل كثيراً فأسلم فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن المؤمن يأكل في مِعيٍ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء.
فقلة الأكل من المستحسنات في عامة الأحوال، ولو لم يحقق الصيام إلا ما يستفاد من الجوع لما كان لشهر رمضان مزية، ولو كان صوم رمضان لا يقصد به إلا قلة الأكل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وقال ابن عبدالبر: أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير السحور، صحاح متواترة، وعند عبدالرزاق وغيره بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطارًا وأبطاهم سحورًا.
ثم إن شهر رمضان شهر يزاد فيه رزق المؤمن، فلو زيد الرزق في رمضان لكان الغرض الانتفاع به في ذلك الشهر والتقوي به، ومن ثم ترى المسلمين حتى فقراءهم في جميع بقاع الأرض يستكثرون من المطاعم والمشارب في شهر رمضان، فإنهم يأكلون أكثر وأفضل مما يأكلون في غير رمضان.
قالوا: فما ترى؟ قلت: كنت أميل أن سببه هو ترويض النفس وهو أقرب مما ذهب إليه الذين أنكرت كلامهم، ثم رأيت أن سبب ذلك هو حمل المسلمين على التمييز بين العبادة والعادة وعيا وإرادة.
قالوا: فما ترى الآن؟ قلت: اعلموا أن الله أحد، ومعنى ذلك أنه كامل بنفسه لايحتاج إلى غيره، له الأسماء الحسنى والنعوت العليا منذ الأزل، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وإنما خلق الخلق رحمة منه، وخلق الإنسان وجعل له إرادة، ومكَّنه من أن يخضع إرادته لمرضاته أو لمرضاة ربه، ومرضاة الإنسان قد تنشأ من فطرته وعقله وذلك مما ينفعه، وقد تنشأ من هواه وذلك مما قد يضره، فإذا خضع الإنسان لإرادته جر إلى نفسه نفعا وضررا، وإذا خضع لأوامر ربه ابتغاء مرضاته لم يعقب ذلك إلا ما ينفعه، فإطاعة الله خير محض لا شر فيه، ونفع صرف لا ضرر فيه، لأن أوامره لا تعود بنفع إليه تعالى، وإنما تنفع العباد وتدر عليهم بالخيرات.
وقلت: إن إخضاع الإنسان نفسه لمرضاة الله (وهو الإسلام) ليس سهلا لما تنازعه الأهواء والشهوات وتشاده مشادة، فلا بد أن يلازم الإطاعة ويتشبث بها، وذلك بتنمية استشعار خوف الله فيه ومراقبته وإتيان أوامره واجتناب نواهيه، وهو المعبر عنه بالتقوى، فالتقوى طريق الإسلام الكامل لله رب العالمين، وفرض الله الصوم على عباده رحمة بهم لعلهم يتقون، فيأكل ويشرب ويأتي شهوته إذا أذن له الله ذلك، ويمتنع منه إذا نهاه الله عنه.
قالوا: هل بين ما ذهبت إليه وما ذهب إليه غيرك من المعاني من تعارض؟ قلت: لا، ولكن هذه المعاني يختلف بعضها عن بعض اختلافا، قالوا: فما يمنعك أن تجعل المعنى الذي فسرته هو الأصل، وأن تجعل المعاني الأخرى تابعة له؟ قلت: لا مانع، ولكن أكره مثل هذا التخليط، لأني من أحرص الناس على أن يقدم المعنى القرآني صافيا غير ممزوج.
الدكتور محمد أكرم الندوي