منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (6)

الأستاذ محمد إسحق السنديلوي الندوي
7 أبريل, 2022
الشيخ الحاج معين الدين الندوي
18 يونيو, 2022

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (6)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي

كانت حياة الشيخ الندوي تتصف بما لابد لمن يقوم بالعمل الدعوي والإصلاحي على نطاق أوسع، فكان بصيرا بمقتضيات الظروف والأوضاع وإماما مدبرا حكيما وليس عارفا بمناهج اللغة وأساليب الأدب والبيان فحسب بل كان ممن قام بتوجيه الركب الأدبي إلى وجهة رشيدة، وكان يملأ إهابه حب الإنسانية والأمة الإسلامية، كانت سجاياه كلها تشف عن خلق النبي الأعظم معلم الإنسانية الأكبر من طول السهر لتقدم الأمة ودوام الفكرة.

ولابد للداعية وخاصة إذا أراد أن يقوم بالعمل الدعوي والإصلاحي في طبقة الأمراء والملوك أن يكون عفيفا وزاهدا فيما في أيديهم من المال والجاه والسلطان، وكان الشيخ الندوي بلغ من الزهد والعفاف إلى قمة عالية وذكر الناس بحياة السلف الصالح، فقد حضر على بابه الأمراء والوزراء ووربما دخل بنفسه قصر السلاطين ولكن لا دخول سائل يرجو منهم المنفعة الدنيوية، بل دخول داعية إسلامي بمعنى الكلمة أتى ليستفيد منه الأغنياءفقام بمناصحتهم وإرشادهم وذلك بأسلوب لين هادئ تستميل النفوس وتؤثر في القلوب، والزهد من صفته أنه إذا اتصف به الإنسان فيحدث فيه نوعا من الفظاظة في الخلق والغلظة في القلب وأسلوب الكلام ولكن الشيخ الندوي على الرغم من اتصافه بالزهد المثالي والعفة النادرة ذا قلب رحيم ولسان لين وشخصية محببة تهواها النفوس.

وكان يرى المنهج الأول هو الأصلح والأجدر لإقامة الدين الإسلامي وكان مقتديا فيه بمجدد الألف الثاني الشيخ أحمد السرهندي.

سافر الشيخ سنة 1414الهجرية إلى شكاكو فزاره الطلبة ومن يتصلون به فطرح عليه بعض من حضر في مجلسه سؤالا ” ما هو الطريق الأجدر لإقامة الدين الإسلامي على وجه الأرض؟” فرد عليه الشيخ الندوي قائلا:

“هناك طريقان للغلبة والانتصار: (1) التركيز على إيصال الايمان إلى الحكام، (2)التركيز على إيصال جماعة مؤمنة إلى كراسي الحكم، ولكن أخشى في استخدام الصورة الأولى أن هولاء الحكام اذا خافوا على أنفسهم أوانقراض دولتهم فإنهم يؤثرون كسر كرسي الحكم بدلا أن يتنازلوا عنه لغيره، وذلك – لا شك -يؤدي إلى إخلال في الأوضاع وإفساد في المجتمع وإزهاق للنفوس والأرواح. وأما الطريق الثاني -وإن كان يقتضي مدة مديدة لظهور النتائج المرجوة منه- فهو الأجدر والأصلح لغلبة الدين وهو تركيز العناية على إيصال الإيمان إلى الحكام وأصحاب المناصب العليا، وممايدل على فائدة هذه الفكرة وصلاحها تجربة الإمام السرهندي الذى غير الوضع بمنهجه السليم وأحدث انقلابا سلميا طوعيا في عصرالإلحاد والزندقة، وكان يقول: لا حرج أن يبقى أصحاب الحكم على مناصبهم وإننا نريد الإصلاح في الأرض لا مناصب التأثير والجاه والسلطان”.

مجدد الألف الثاني في عصرالإمبراطور أكبر:

وإن الثورة على الدين والثوابت الإسلامية التي أحدثها الإمبراطور أكبر كادت أن تقضي على الإسلام في أرض الهند، لأن التحول الروحي والمعنوي والردة الفكرية والحضارية كانت في عصره أخطر وأدق وأرسخ جذورا من انقراض الدولة والإنهيار السياسي، وإنها تحتاج إلى قوة تقوم بإنعاش الروح الإسلامية ومقاومة الفتن الخطيرة واستئصالها من جذورها واستعادة الهند إلى راية الإسلام وحفظها من الارتماء في حضنها، وصيانتها من العاقبة الوخيمة التي تجرعت كأسها المرير أرض الأندلس في القرن التاسع الهجري، وشاء القدر أن يقيض لتحمل هذا العبء الثقيل الشيخ الإمام المجدد أحمد السرهندي , وقد خص الشيخ الندوي المجلد الرابع من كتابه ” رجال الفكر والدعوة” لبيان ما قام به السرهندي من الدور الرائع في الدفاع عن الدين الإسلامي وتقويته ونصره، وألقي ضوءا كاشفا عن عمله التجديدي ومحاولات خلفائه ومسترشديه الدينية فيكتب:

“كانت في هذه الفترة أمام الإمام السرهندي وجميع العلماء الغياري على الإسلام – الذي كانوا يتحلّون بالعلم الديني، والصلاح الباطني، وكانوا مشغولين بخواص أنفهسم، ويقطعون فيافي السلوك إلى الله، وتملك قلوبهم ومشاعرهم الحمية الدينية الثائرة، والغيرة الإسلامية المتأججة، لمواجهة هذه الأوضاع التي كانت تظل الدولة وتحيط بها ثلاث طرق:

1-الطريقة الأولى: أن يعتزلوا الدولة والبلاد، ويتركوا حبلها على غاربها، ويلجؤوا إلى زاوية، يشتغلون فيها بذكر الله – في سكينة وطمأنينة – وتربية الطالبين وإرشاد السالكين، والانهماك في الطاعات والعبادات.

كان هذا هو الطريق الذي اختاره – في عهد الإمام السرهندي – عشراتٌ بل مئاتٌ من العلماء والمشايخ، وكانت لهم رباطات وزوايا في كل بقعة من البقاع، حيث كانوا منصرفين إلى التربية والإرشاد في هدوء وصمت وانهماك، وكان الطالبون والمسترشدون من عباد الله يشدّون إليهم الرحال، ويستفيدون منهم فوائد روحية، وإيمانية كبيرة.

2-الطريقة الثانية: أن يقطعوا الرجاء – بصورة حاسمة – من إصلاح السلطان – الذي كان انتماؤه إلى الأسرة الإسلامية اسميًا – ويعتبروه معارضًا عنيدًا للإسلام، تشهد بذكر كثير من القوانين والمراسيم الملكية، وسيرته وسلوكه، وييأسوا من إصلاح الدولة، فيلجؤوا إلى إقامة جبهة دينية معارضة مقابل الدولة والسلطان، وإلى محاربته، والنضال المستمر ضده، نظرًا إلى أنه عدو لدود للإسلام، ومعارض دائم للدين، وأن يجمعوا حولهم رجالاً تغلي فيهم الحمية الدينية، وتستولي على مشاعرهم عواطف الجهاد والاستماتة في سبيل الله، ويتميزون غيظًا من الأوضاع الراهنة، من الأمراء والأتباع والمريدين، والمحبين والمعجبين بهم، ويحدثوا – بعد ذلك – ثورة في الدولة، بالإجراءات السياسية والعسكرية، ويحاولوا أن يولّوا السلطة رجلاً صالحًا ديّنًا – ولو كان من الأسرة المغولية، ومن أبناء (بابر) – يغيّر وجهة الدولة، فتتغير الأوضاع، وتتحسن الظروف.

3-الطريقة الثالثة: أن يتصلوا بأعضاء الدولة وأمرائها، ويثيروا الحمية الإسلامية، والعواطف الدينية، فيمن عرفوهم واتصلوا بهم من قبل، ويعتقدون في إخلاصهم، وسمو شخصيتهم، وتوجّعهم للأوضاع، وينفضوا الرماد عن تلك الجمرات الكامنة في قلوبهم، ويشعلوها، وينفخوا فيها، ويحرّضوهم على النصيحة للسلطان، وأن يحرّكوا تلك العروق الإسلامية التي ورثها عن آبائه، وأجداده المؤمنين، ويحملوه على حماية حوزة الإسلام، وتضميد القلوب الجريحة للمسلمين وتدارك العهود الماضية.

وأن يسموا بأنفسهم، ويترفعوا على الجاه والمناصب، ويثبتوا للناس زهدهم وتقشفهم في الحياة، واستغناءهم عمّا في أيدي الناس، ويكلوا الدولة إلى أهل الدولة، والمناصب إلى أهلها، والمتبوئين لها، ويتظاهروا بإخلاص ونزاهة، وسمو نفس لا ترقى إليه شبهة، ولا يقدر أشد الناس معارضة لهم، وأكثرهم كيدًا وحسدًا، أن يتهمهم بالحرص والمع في الجاه والسلطان، ولا تنجح أي مؤامرة لإسقاط شأنهم، وحطّ منزلتهم.

أما الطريق الأول فما كان يلائم طبيعة الإمام وعلو همته وشدة عزيمته، وعظيم مكانته التي بوأه الله تعالى إياها، ولا ينسجم معها أيما انسجام.

فقد كان الإمام السرهندي – بعد أن فاز بالتكميل الباطني، والتربية الروحية العالية – على ثقة ويقين تام، بأن الله سبحانه وتعالى هيأه لأمر عظيم، وأنه لم يُخلَق للعبادات الفردية المكتوبة، والتقدم في المراحل الروحية، فحسب، أو بشياخة الطرق، وإرشاد السالكين فحسب، وقد أباح سرّه، وتحدث عن نفسه عندما أشار إلى قول من أقوال الشيخ الكبير عبيد الله أحرار (المتوفى سنة 895هـ) الذي كان شيخًا رفيع المكانة من مشايخ سلسلة الإمام السرهندي، بل يُعتبر إمام هذه السلسلة – يقول: كان الشيخ عبيد الله أحرار يقول:

“لو تصديت للشياخة والإرشاد، وأخذ البيعة من الناس، لما وجد أي شيخ من مشايخ ا لطرق من يبايعه، وينخرط في سلك مريديه، ولكن الله تعالى أراد بي أمرًا آخر، وهو نشر الشريعة السمحة، وتأييد الملة الحنيفية”.

ثم يقول الإمام تعليقًا على ذلك: “كان (الشيخ الكبير عبيد الله) يدخل على السلاطين، ويحضر مجالسهم، ويؤثّر فيهم بقوته الباطنية، وملكته الروحية، فينقادون له، ويطيعونه، ثم يستعين بهم في نشر الشريعة”.

أما الطريق الثاني، فإنه لا يسلكه من الدعاة أو القادة إلا صاحب عقلية سياسية، قاصر النظر، محدود التفكير، الذي يبدأ عمله من الشك وسوء الظن، ويجعل الحكومة – بتسرّعه وترجيح إقامة الجبهة المعارضة على حكمة الدعوة وعاطفة الإصلاح والنصيحة – تقف إزاءه وجهًا لوجه، وتعارضه من أول الطريق، وهو بذلك تضيق عليه الأرض بما رحبت، ويقلل إمكانات انتصار الدين، وهيمنة الشريعة.

وليس هذا طريق الداعي الموفّق إلى الله، الذي لا يريد لنفسه ولحزبه علوًا في الأرض، وسيطرة على الحكم، بل كلّ همه أن يظهر الدين، وتنفذ أحكام الشريعة، وتصلح الدولة، كائنًا من كان المنفذ لهذه الأحكام المسيطر على البلاد.

وكان القيام بتكوين جبهة معارضة للدولة، وإعلان الحرب عليها محفوفًا بالصعوبات والأخطار، وكان هذه الخطوة – في الأوضاع السياسية السائدة في البلاد – نوعًا من الانتحار في حق الإسلام، لأن الدولة المغولية، التي وطد أركانها السلطان (بابر) وثبّت جذورها بيديه، وتجشّم لها الملك (همايون) مشاق الرحلة الخطيرة إلى إيران، وأحكمها وقواها السلطان (أكبر) بفتوحه، وانتصاراته المتتالية، وتسخير البلاد – كانت شابة فتية، لم تبدُ فيها آثار الضعف والهرم، ولم يستطع السلطان (سليم شاه) خليفة الملك العصامي السلطان (شير شاه السوري) أن يقضي عليها.

وأخفقت كل المحاولات – في فترات مختلفة – للثورة وقلب نظام الحكم.

ثم إذا نجحت الجهود لخلع السلطان المغولي، كان من المتوقع جدًا، أن يستولي الراجبوت – الذين تولوا في عهد السلطان مناصب عالية خطيرة في الدولة، وكانت قوتهم العسكرية هي الوحيدة التي كان السلطان يثق بها ويعتمد عليها – على الحكم، فيكون ذلك ضربة قاصمة للسلطة المسلمة في هذه البلاد إلى الأبد.

ثم إن هذه التجربة لقيت إخفاقًا ذريعًا، من قبلُ فقد قامت – في عهد السلطان أكبر – حركة دينية منظمة كبيرة تحت قيادة الشيخ (بايزيد) باسم (الفرقة الروشنائية) وقد تقدم ذكر شيء من تاريخها وعقائدها – وحاربت هذه الفرقة جيوش الدولة المغولية الجرّارة، طوال أعوام وسنين، واستولت على (ممرّ خيبر) بعد أن جعلت مقرها (جبل سليمان) وشنّت غارات على المناطق المجاورة، وبعث السلطان أكبر لمقاومتها (راجه مان سمنكهه) و(راجه بيربل) وزين خان، وكلهم باؤوا بالخيبة والهزيمة، وقتل (بيربل) في معركة من المعارك، واستولت (الفرقة الروشنائية) بجيشها اللجب على (غزنين).

ولم يمكن التغلب على هذه الفتنة الداهية إلا في عهد السلطان (جهانكير) ثم قضى عليها قضاء باتًا في عهد السلطان (شاهجهان)، ورغم كل ذلك لم تنتج هذه الثورة إلا فوضى واضطرابًا، واستسلمت – أخيرًا – للدولة المغولية، وبقي اسمها يذكر في التاريخ.

إن مثل هذه الإجراءات العسكرية باسم إصلاح الأوضاع الفاسدة، تستهدف للظنون السيئة، والشكوك المريبة عند أصحاب السلطة والحكومات، فيشمرون عن ساعد الجد – لظنهم أن الدين هو المعارض المناوئ لسلطتهم – لاستئصاله والقضاء عليه، ويتتبعون أتباعه والمتحمسين له، فيصفونهم ويبيدونهم إبادة كاملة.

ولعل الإمام السرهندي لأجل ذلك – بعد خروجه من معتقل (كواليار)، ومرافقة العسكر الإجبارية أربع أو خمس سنين، أشار على الوزير الشهير في بلاط السلطان جهانكير الأمير (مهابت خان) عندما قام بالثورة عام 1035هـ على الدولة أن يكف عنها، ولا يثير الاضطراب، فكان دليلاً واضحًا على فراسته الإيمانية، والتوفيق الرباني الذي كان حليفه، إنه ما اختار – لإحداث تغيير جذري في الأوضاع – هذا الطريق ا لمشبوه المحفوف بالأخطار، بل سلك طريق البناء بدل الهدم، والإيجاب بدل السلب، والإمالة بدل الإزالة، الطريق الذي كان بمأمن من كل خطر وضرر.

ولم يبق بين يدي الإمام إلا طريق واحد، وهو أن يبدأ باتصالات خاصة، مع أركان الدولة وأعيانها – الذين كانوا مسلمين، وكان الإمام السرهندي يعرف بذكائه الموهوب ومعرفته العميقة للنفوس – أنه لم يكن لهم في هذه المؤامرة والكيد للإسلام في عهد السلطان أكبر ناقة ولا جمل، بل كانوا يستنكرون كثيرًا من إجراءاته، ولكن السلطة لم تكن بأيديهم حتى يعملوا شيئًا، وكان عدد منهم يتصف بالحب العميق للإسلام، والحمية الدينية، وعدد آخر كانوا معجبين بشيخ الإمام، ومرشده الشيخ الكبير عبد الباقي، ويحبونه، ويعتقدون في علو مكانته، وإن لم يكونوا من مريديه، والمبايعين على يديه، وكانوا يعرفون إخلاص الإمام السرهندي، وتحرقه للإسلام وتوجعه للدين، وزهده وعفافه.

وكان أشهر هؤلاء الأعيان، وأجلهم شأنًا النواب السيد مرتضى المعروف بالشيخ فريد (المتوفى سنة 1025هـ)، وخان أعظم مرزا كوكه (المتوفى سنة 1033هـ) وخان جهان اللودهي (المتوفى سنة 1040هـ)، وصدر جهان البهانوي (المتوفى سنة 1027هـ) والإله بيك جهانكير.

ما صدر من القلب نفذ إلى القلب:

وجّه الإمام السرهندي خطابه إلى أركان الدولة وكبار الأمراء والوزراء واستأنف المراسلة معهم، ونثر قطع قلبه ومُزع نفسه على صفحات الرسائل التي تمتاز – بين مجاميع الرسائل التي كتبت في أي لغة من لغات العالم، وفي تاريخ أي حركة دينية إصلاحية – ببلاغتها، ونصاعة أسلوبها، وروعة تأثيرها، وتدفق معانيها، وقد تجلى فيها تألم منشئها للوضع والواقع، وإخلاصه واستحواذ الفكرة عليه في أروع مظاهره.

ولا تزال – رغم مضي مئات السنين عليها – تحمل ذلك التأثير والروعة والجمال، يقدر بملاحظتها القارئ ما كان لها من فعل وتأثير في نفوس من وجهت إليهم، والواقع أن هذه الرسائل هي رسول الإمام السرهندي، وسفيره في الدعوة والتبليغ، وترجمانه الصحيح لقلبه المكلوم الجرح، وهي قطرات دموعه، وفلذات كبده، وقد كانت لها مساهمة أساسية فعالة في إحداث ذلك الانقلاب العظيم الذي ظهر في الدولة المغولية في القرن العاشر بالهند. [ رجال الفكر والدعوة في الإسلام، 3/299-304].

إن هذه القطعة التي اقتبسناها من كتاباته وإن كانت طويلة إلا أنها تكشف منهج دعوته المعتدل وفكره الحصيف المساير لمقتضى الظروف  وتتجلى من خلالها حياته الدعوية وجوانب عظمته الرائعة. (يتبع)

×