ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا

“الحديقة” وجامعها “محب الدين الخطيب”
17 مارس, 2024
الدكتور أحمد أمين وأشهر أعماله العلمية والتاريخية والأدبية (3/ الأخيرة)
17 مارس, 2024

ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا

بقلم: أ. د. تقي الدين الندوي(*)

إنني قد كنت كتبت رسالةً مفصلةً إلى حضرة مدير دار العلوم لندوة العلماء الدكتور سعيد الأعظمي الندوي، وإلى الأستاذين الجليلين السيد محمد جعفر مسعود الحسني الندوي، والسيد بلال عبد الحي الحسني الندوي، ذكرت فيها بعض خصائص حياة أستاذي ومرشدي ومزايا سيرته وخلقه.

ولا شك أن ارتحال العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي الذي كان عالماً ومفكراً ذا بصيرة علمية ودينية، ومدبراً حكيماً لشئون الأمة الإسلامية والعربية، وإماماً وقائداً لحركة ندوة العلماء قد أوجد فراغاً هائلاً لا يملأ في مثل هذا الزمان الذي قل فيه وجود علماء ربانيين وقادة أكفاء.

إن شخصيته كانت بمثابة مركز نور وهداية يستنير به أساتذة المدارس الدينية وطلابها وعدد جم من علماء الهند والبلدان العربية والإسلامية، وإن الجهود التي بذلها العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي في سبيل الحفاظ على حركة ندوة العلماء ومنهج وسطيتها واتزانها في الفكر والعمل والدعوة الذي دعا إليه المفكر الإسلامي الشهير العلامة أبو الحسن الحسني الندوي ونشره في العالم العربي والإسلامي لمن أعظم مآثر الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وإن ارتحاله إلى    دار الخلد في 13/ أبريل 2023م خسارة عظيمة لا تعوض للأمة الإسلامية جمعاء ولتلامذته ومسترشديه بصفة خاصة.

وإنني والحمد لله كانت بيني وبينه صلة عميقة خاصة منذ 1953م إلى آخر أيام حياته، قد قابلته لأول مرة حين كنت طالباً في الدراسات العليا في دار العلوم لندوة العلماء، وكان المفكر الإسلامي الشهير العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي قد كان رجع إلى الهند بعد عدة شهور قضاها في جولة علمية ودينية في البلاد العربية، وكان يبذل جل عنايته على رفع مستوى دار العلوم لندوة العلماء العلمي والديني، ويعتني بتطورها وازدهارها ونشر دعوتها في العالم الإسلامي، وكان يرافقه في ذلك الأستاذان الجليلان السيد محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ القاضي معين الندوي.

وقد كنت قرأت على الشيخ الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي عدة أبواب من كتاب ديوان الحماسة خارج الحصص الدراسية، ثم إني لما عُيّنت مدرساً في دار العلوم لندوة العلماء كنت أسعد بعنايته الكريمة وحبه الخالص، ولا يزال يتزايد حبه على مر الأيام، وخير دليل على ذلك ما دبّجه يراعه في مقدمات على ثمانية مؤلفاتي العربية وأربعة مؤلفاتي الأردية، فإنه قد كتب هذه المقدمات على كتبي بكل اهتمام ومحبة، وقد رفعت هذه المقدمات من شأن المؤلف ومؤلفاته.

وإن أسرة الشيخ الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي تنتمي إلى حضرة السيد أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله، وإن جد أستاذنا السيد خليل الدين الحسني كان رجلاً عظيماً وجيهاً في أسرته، متمسكاً بعقيدة التوحيد الخالص، وكان يتصل بالعالم الرباني الشهير الأستاذ الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي المتوفى 1323هـ، وقد بايعه بيعةً دينيةً روحيةً، وقد قال سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي عن الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي في كتابه ” تذكره مولانا فضل رحمن كنج مراد آبادي”:

إنه لما رسخت قدم الإنكليز في الهند في أوائل هذا القرن وبلغ حب المعدة والمادة إلى أوجها، وأصبح أهل القلوب الصافية والأرواح المخلصة يتغنون بكل أسف وحسرة ما قاله الشاعر الأردي:

وہ جو بیچتے تھے دوائے دل وہ دو کان اپنی بڑھا گئے

يعني “إن أهل القلوب المخلصة والأرواح الصافية قد رحلوا وغادروا، وأقفرت حوانيت الحب والروحانية والربانية”.

ولكن كان بعض الزوايا والتكايا قد حمل مسئولية الإرشاد والتربية وأشعل في حوانيتها نور الهداية والربانية، فكان ينشر رسالة الحب والمعرفة الإلهية، منها زاوية الشيخ العالم الرباني فضل رحمن كنج مراد آبادي في كنج مراد آباد وزاوية الشيخ المحدث الجليل رشيد أحمد الكنكوهي في كنكوه، وكان هذان العالمان الربانيان يرشدان الناس في عصرهما إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة والسنة النبوية العطرة.

وكان لجد أستاذنا الشيخ السيد خليل الدين الحسني علاقة روحانية بالعالم الرباني الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، وكانت علاقة جده من أمه السيد عبد الحي الحسني بالعالم الرباني الشيخ فضل رحمن الكنج المراد آبادي، فاجتمعت في أسرة الحسنيين خصائصهما، وصارت أسرة أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ملتقى البحرين، ولذلك كان أستاذنا وإخوانه البررة موضع ثقة كبار العلماء في الهند من أمثال الشيخ عبد القادر الرائيفوري وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني وشيخ الحديث الأستاذ محمد زكريا الكاندهلوي وغيرهم، فكان الأستاذ الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي على صلة وطيدة روحية تربوية بهؤلاء العلماء والمشايخ الكبار، كما كان يجمع بين خصائص خاليه العظيمين الدكتور السيد عبد العلي الحسني وسماحة الشيخ السيد   أبي الحسن علي الحسني الندوي العلمية والفكرية والروحية، فصار بذلك قدوةً حسنةً للتمسك بالشريعة والسلوك الحسن والمعرفة الربانية واتباع الشريعة وحب الحديث النبوي الشريف والسنة المطهرة، فصار جامعاً بين علوم الشريعة وعلوم الإحسان والتزكية معاً.

وقد ألف الأستاذ الندوي كتاباً حول موضوع السيرة النبوية فذكرت بعض خصائص هذا الكتاب المفيد، فاستبشر بذلك، وقبل عدة شهور رأيت الشيخ وعيناه تهملان الدموع، لأنه كان يذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجهودهم وجهادهم في غزوة الأحزاب، لا يملكون ما يملؤن به بطونهم، فكانوا يكتفون بأكل تمرة وتمرات، ومع هذا الجوع جاهدوا في سبيل الله في ليالي الشتاء الباردة القاسية، فكان يذكرهم ذكراً جميلاً مؤثراً يضرب على أوتار قلوب السامعين.

وأما هذا العاجز الفقير فإنه كان مرتبطاً بالشيخ الجليل السيد محمد الرابع الحسني الندوي ارتباطاً قوياً، ودامت هذه الصلة إلى آخر أيام حياته، لذلك فإن ذكرياته الجميلة وخصائصه البارزة تتطلب مني مقالاً مفصلاً أو كتاباً مستقلاً في الموضوع، ولكن أكتفي الآن بذكر نبذة يسيرة من ذكرياته.

إني كلما زرته في بداية السنة الدراسية في دار العلوم لندوة العلماء ونهايتها لإلقاء الدروس بمناسبة افتتاح الجامع الصحيح للإمام البخاري وانتهائه وفق توجيهات رئيس ندوة العلماء الشيخ الأستاذ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله فكان يزداد حبه وكرمه وعطفه علي أكثر فأكثر، وكان يهدي إلي وإلى من يرافقني في السفر هدايا قيمةً ثمينةً من العطور وغيرها بمثل هذه المناسبات، وكان الأستاذ محمد واضح رشيد الندوي يرى هذا الحب والحنان، ويبتسم ابتسامة المحبة.

ولما انتقلت والدتي إلى رحمة الله سبحانه وتعالى في 19/ شعبان 1420هـ الموافق 1999م سافرت فجأةً من أبو ظبي إلى لكناؤ مع بعض أولادي، وكانت أيام الشتاء، فلما نزلت في مطار لكناؤ شاهدت عدداً جماً من الناس، فيهم شيخنا الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي والأستاذ الشيخ المفتي محمد ظهور الندوي، وقد كانوا جاءوا للعزاء والتسلية عني.

وكنت أستشير الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في كل شأن من شئون حياتي، فكان من الواجب علي أن أكتب كل ذلك في كتاب مستقل، ولكني أكتفي الآن بذكر تلك المقدمة التي كتبها الشيخ محمد الرابع الندوي على كتابي “داستان ميري” (مسيرة حياتي)، يقول الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في مقدمته:

“الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد بن عبد الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين، وبعد:

فإن شخصية الدكتور تقي الدين الندوي شخصية متميزة معروفة في الأوساط العلمية والدينية بأعماله الحديثية التحقيقية، ولا تحتاج إلى بيان وتعريف، إنه يمارس أعمال البحث والتحقيق ودراسة وتدريس كتب الحديث الشريف وعلومه وتحقيقها والتعليق عليها منذ ستين سنة تقريباً، إنه قضى حياته كطالب عادي في بداية مرحلة تعليمه، ولم تظهر خصيصاته البارزة في بداية حياته، ولكنه لما تسنح فرصة العمل الجاد المستمر لأحد فإن ذلك يساعد في تطوره وازدهاره، لذلك فإن الدكتور تقي الدين الندوي استمر جاهداً في سبيل المعرفة والعلم والتحقيق واستفاد بذلك استفادةً كاملةً فعلت درجته، وساعده في ذلك عناية أساتذته وشيوخه وإشرافهم عليه بصفة خاصة، فإنه كان يلازمهم ويستشيرهم في أموره دوماً.

كانت صلته بشيخ الحديث مولانا محمد زكريا الكاندهلوي صلةً قويةً، ولم تكن هذه الصلة تتعلق بعلمه ودراسته فحسب، بل بخلقه وعمله وحياته كذلك، فإنه ترك عمل التدريس ورحل إلى مصر لطباعة كتاب ” بذل المجهود في حل سنن أبي داود ” لشيخ شيخه المحدث الجليل مولانا خليل أحمد السهارنفوري ومراجعته، وبذل جهداً ووقتاً كثيراً مع زملائه بكل جدية وأمانة، واستبشر شيخه مولانا محمد زكريا الكاندهلوي بجهده وأصبح محبوباً لديه، ودعا له الشيخ الكاندهلوي بالبركة في حياته.

هذا، وفي جانب آخر بدأ ينمو ويتطور فيه ملكة تحقيق الكتب العلمية والمخطوطات النادرة، فصرف عنايته إلى ذلك وأصدر كتباً قيمةً علميةً بعد تحقيقها والتعليق عليها، وحقق كتب الحديث لشيخه وأستاذه شيخ الحديث مولانا محمد زكريا الكاندهلوي خاصةً، وأصدر كتبه في ثوب قشيب بتحقيقه، وواصل العمل في تحقيق كتب الحديث فأصدر “الجامع الصحيح للإمام البخاري” بحاشية المحدث السهارنفوري في مستوى رفيع من التحقيق والطبع.

وأتيحت له الفرصة بفضل الله وكرمه لتدريس الحديث الشريف وعلومه في جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة، فدرّس وأفاد، وازدادت صلته بسعادة الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان رحمه الله، وقويت، فوفّر له جميع التسهيلات لخدمة الحديث الشريف، ويسّر له السبيل لتحقيق كتب الحديث وإصدارها في حلة قشيبة ومستوى رفيع.

وقبل ذهابه إلى الإمارات العربية المتحدة كان الدكتور تقي الدين الندوي يدرّس الحديث الشريف في دار العلوم لندوة العلماء وفي مدرسة فلاح دارين في غجرات، واستفاد في هذه المدة التي قضاها في تدريس الحديث الشريف من أساتذته وشيوخه استفادةً كاملةً، وصار موضع ثقتهم.

ولأجل اتصاله بدار العلوم لندوة العلماء كانت بينه وبين المفكر الإسلامي سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي صلة قوية، كما كان يرتبط بشيخه الأستاذ محمد زكريا الكاندهلوي، وصار تلميذاً رشيداً وخادماً لعلومه ومعارفه، ولأجل اشتغاله بعلم الحديث أصبح يعتني بإصلاح نفسه وسلوكه واستفاد من شيخه في هذا الطريق أيضاً، وكذلك اتصل بالشيخ الرباني في عصره مولانا محمد أحمد البرتابكرهي الذي كان ينتمي إلى سلسلة مولانا فضل رحمن الكنج مراد آبادي ونال منه الإجازة والخلافة.

وكان له ارتباط قوي مستمر بندوة العلماء والقائمين عليها وخاصةً بشخصية سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، ولذلك كان يرتبط بي أيضاً، وأنا أعرفه عن كثب منذ أن كان طالباً في دار العلوم   لندوة العلماء وتجلت أمام عيني شخصيته التي كانت متميزةً بعلمه ودراسته كما كانت تبرز تحقيقاته ودراساته وبحوثه العلمية بين فينة وأخرى، وقد ألف كتاباً ذكر فيه مراحل حياته العلمية والتحقيقية، ويتجلى فيه للقارئ أنه كيف يمكن لإنسان أن يتمكن من بناء شخصيته العلمية المتميزة، وما هي الصعوبات التي يواجهها في سبيل العلم والنبوغ فيه، وسمّاه ” داستان ميري ” ( مسيرة حياتي ) وسوف يكون هذا الكتاب تحفةً قيمةً للباحثين والدارسين.

وإن كل إنسان يتأثر بما حوله من أجواء علمية دينية، وبأصدقائه وأقاربه وأولياء أموره، ويؤثر كل ذلك على تكوين شخصيته وبناء كيانه، ولذلك نرى أن من سعد بصحبة العلماء الربانيين تتكون شخصيته، وتصلح حياته، وتتجلى مواهبه العلمية بكل يسر وسهولة، وإن أصل الـفـائدة تحصل بصحبة العلماء الربانيين بأنفسهم، ولكن يمكن الاستفادة من دراسة ومطالعة سيَر الصالحين، لذلك من المأمول أن يستفيد الباحثون والدارسون وكل من يطالع هذا الكتاب الذي بين أيديكم، والله ولي التوفيق.

(الشيخ الأستاذ) محمد الرابع الحسني الندوي (رحمه الله)

رئيس ندوة العلماء

28/ شوال 1434هـ 2013م

وإن وفاة أستاذنا الجليل السيد محمد الرابع الحسني الندوي قد أثرت علينا وهزت قلوبنا وعواطفنا، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يُلهم جميع أفراد أسرته والمنتسبين إلى ندوة العلماء الصبر والسلوان.

وبوفاته خسرت الدنيا ضياء العلم والمعرفة، والإيمان والإحسان، والزهد والتقى الذي كان يستنير به العالم إلى نصف قرن تقريباً، وخسرنا شخصيةً كانت مركزاً علمياً يشعّ منه نور الحكمة والإحسان، وإن حزن وفاته ليغلب على قلبي ولا أجد في نفسي همةً لذكر ذكرياته التي لا تعد ولا تحصى، وامتثالاً لأمر أصدقائي كتبت هذه السطور.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(*) رئيس الشئون التعليمية بندوة العلماء، لكناؤ وبروفيسور جامعة الإمام محمد بن زايد، بأبو ظبي.

×