البناء الحقيقي للنفوس
17 مارس, 2024الحلم دليل عظمة الإنسان
18 مايو, 2024شهر تزكية القلوب
محمد خالد الباندوي الندوي
أخي العزيز!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ها نحن – أيها الأخ – في شهر رمضان الفضيل، شهر البركة والسعادة، شهر الفضل والطهارة، شهر العبادة والصيام وتلاوة القرآن، شهر جعله الله –بفضله– لنخلو فيه لعبادة رب العباد متحررين من عبودية المادة والمعدة، ونقرر من أوقاتنا ساعات عذبة جميلة قائمين بالليل صائمين بالنهار ونتخلص من عناء العمل وجلبة الحياة لنستكمل ما نقص من قوانا الروحية، ونسمو بأرواحنا إلى حظيرة القدس الإلهي ونتقرب إلي خالق الأرض والسماء بالتضرع والإنابة والتوبة والاستغفار.
وإن هذا الشهر فرصة سعيدة أكرمنا بها لكي نتمكن من صفاء الطبيعة وجلاء الباطن من أرجاس المادة وشهوات المعدة، ونتحلق في سماء القوة السرمدية ونسبح في ملكوت النور، فهذا الشهر في الواقع شهر التورع عن المجاهرة بالعصيان والارتكاب بالفواحش والمنكرات وشهر التجرد عن مطالب النفس وشهوات البدن.
وإن لشهر رمضان صلة قوية للقرآن الكريم لأن الله سبحانه اختصه لنزوله من فوق سبع سموات كما قال الله سبحانه “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” ويقتضي ذلك ملازمة القرآن تلاوة بآياته، وتدبرا في بواطن كلماته، واستحضارا لحكمه الخفية وأسراره اللطيفة، وتعمقا في فهم البينات الواضحات للحق والهدى، واسترشادا منها في مختلف شعب الحياة التي غرقت في المادة إلى أذقانها، ونتوجه بها إلى عالم التعبد والخلوة والتحنث والعزلة، ونستبين منها طريقا سهلا للحصول على الفيوض الربانية ونسترجع ما فاتنا من صقال النفس والروح في مزاولة الأعمال الشاقة، ونستمد قوتنا من جديد ونجدد نشاطنا وحيوتنا.
وقد عرف السلف الصالح –أيها الأخ –أهمية هذا الشهر وتأثيره على القلوب والأرواح وصلته القوية بالقرآن، فقدروه حق قدره، وجعلوا ساعاته معمورة بالقرآن، مأهولة بالعبادة والذكر، مشغولة بالأوراد، وضنوا بها عن ضوضاء الاختلاط وجلبة التقلب في شؤون الدنيا والخوض في الأحاديث التي لا تجدي نفعا في الآخرة، وأصبحوا بذلك في عالم كله نور وسعادة، وجمال وبهجة، ومناجاة وهداية، وأنس وروعة، ففازوا بنعمتين: نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وسعدوا بالحُسنيين: حسنى العبادة وحسنى الطبعية.
يتطلب هذا الشهر الكريم –أيها الأخ – منك أن تكون جد حريص على تقديره، وتستعد لأداء ما عليك من الواجبات نحوه: من الاهتمام بالصيام والالتزام بالقيام في لياليه المباركة، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم والتدبر في آياته، وتجنب جهد طاقتك عن الرفث والفسوق، وابتعد عن اللهو والمجون، وإياك من الوقوع في الأعراض والارتماء في اللذات الجسدية فإنها مما يفسد عبادتك، ويحبط أعمالك، وعليك بحفظ سور القرآن فإنه مما يجلو البصر، وينشط الذهن، ويقرَ العين، ويفتق القريحة، وينور البصيرة، ويكون مجادلا عن صاحبه في الآخرة وشفيعا له عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.