لغة الحضارة (2)

شعائر الله تعالى وتعظيمها (3)
4 مارس, 2021
وفاة الشيخ أمين سراج رحمه الله تعالى (1)
4 مارس, 2021

لغة الحضارة (2)

أما بعد، فليس من مقاصد هذا الحديث أن أستعرض تاريخ حضارة امتدّت، لما يزيد عن عشرة قرون، من قصر الحمراء على المحيط الأطلسي حتى تاج محل على المحيط الهادي، مرورا بمراكز حضارية متعددة في إفريقيا، مثل فاس وتمبكتو والقاهرة، وآسيا، مثل بغداد وسمرقند وبخارى، فذلك أمر له مصادره المعتمدة، ومن بينها ما خطته الألمانيتان الرائعتان زيغريد هونكه وأنا ماري شيمل، والفرنسي غستاف لوبون، فضلا عن الكتاب العرب والمسلمين، من أمثال محمد حميد الله، وفؤاد سيزكين، وحسين مؤنس، وعبد الهادي التازي، ومحمد المنوني. ولن أقف على أثر اللغة العربية في تلك الحضارة التي لا مثيل لها في امتدادها الزماني والمكاني، ولا على أثر تلك الحضارة في اللغة العربية، وهو أمر جدير بالعناية والدرس، ولكنّ حديثي سيتناول روح اللغة العربية، وما تولّد عن تلك الروح من خصائص ذاتية للغة العربية، جعلتها ترقى من لغة وُلدتْ في الصحراء، إلى أن تصير (لغة الحضارة)، دون سائر اللغات.

كما أنني لا أتردد في أن أقول إنني أردت الدفاع عن اللغة العربية، وهو أمر مشروع، إذ مواجهة أعداء اللغة العربية أمر واجب. “بل نقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق”. ولكن هذا الدفاع لا ينبغي أن يكون بالتغزل في اللغة العربية، والتغني بأمجادها، بل يجب أن يكون بوضع منارة يُهتدى بها في طريق ما سميته إعادة توطين العربية في أرضها بعد نفي وتغريب. وينبغي لهذه المنارة أن توقد على بصيرة، وتستند إلى حقائق علمية، أصّلها علماء العرب المخلصون، قديما وحديثا، وأقرّ بها علماء الغرب المنصفون. وبذلك نستطيع أن نقرر مطمئنين أن اللغة العربية هي وحدها دون غيرها (لغة الحضارة).

ولبيان مقاصد هذا الكلام، الذي قد يبدو غريبا للوهلة الأولى، نحتاج إلى أن نحدد المراد من لفظ (لغة الحضارة). وهنا لا بد من التمييز بين لفظين هما: لغة حضارة ولغة الحضارة.

فكثير من اللغات يمكن أن تكون لغة حضارة، وقد تداولت على الحضارة عبر دورات التاريخ الحضارية التي شهدتها البشرية لغات متعددة، لفترة من الفترات، إذ ليس هناك حضارة يسْلَم ويُسَلّمُ لها زمام القيادة بلا انقطاع، وتلك سنة الله تعالى الذي جعل تداول الحضارات من سننه. قد تكون اللغة الإنجليزية اليوم مثلا لغة حضارة، ولكنها لم تكن كذلك قبل قرون معدودة، بل لم تكن اللغة الإنجليزية لغة تواصل عام بين أهلها، لتعدد لهجات الإنجليز، حيث كانت ملكة بريطانيا تفرض على الناس التخاطب بلغة يفهمها علية القوم بلا عناء، هي اللغة اللاتينية. فكيف للإنجليزية أن تكون لغة الحضارة، بالتعريف؟ وأما اللغة الفرنسية فقد كانت إلى عهد قريب جدا غير موحدة في بلادها، ففي سنة 842م كان الفرنسيون يتكلمون أكثر من عشرين لغة، وكان الفرنسيون يتكلمون الفرنسة كلغة ثانية، إلى جانب الجرمانية التي كانوا يعتبرونها لغتهم، وأقدم وثيقة كتبت بالفرنسية هي الوثيقة المسماة (قسم ستراسبورغ)، وتعود إلى عام 842م. ويصنفها بعض العلماء على أنها تمثل (الفرنسية القديمة). واستمر الأمر على دلك إلى القرن السادس عشر،عندما فرض الملك شارل التاسع، أي عام 1550، سنة توليه الملك، استعمال اللغة “الفرنساوية”، أي اللغة الفرنسية الراقية، من أجل أن يتمكن الجنود من التفاهم معه، وفيما بينهم. وقد كانوا يميزون بين Le Français))، وLa Langue Francaise.

والفرنسيون اليوم لا يستطيعون قراءة تراثهم المكتوب في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، ولذلك يقومون بترجمته. وأحيانا نجد أكثر من ترجمة للنص الواحد، كما هو الحال بالنسبة لملحمة La chanson de Roland.

وعلى هذا فالفرنسية لا تصلح أن تكون لغة الحضارة، وإن كان من الجائز أن تكون لغة حضارة.

وما قيل عن الإنجليزية والفرنسية ينطبق على غيرهما من اللغات، الأوربية وغير الأوربية. أما اللغة العربية فهي (لغة الحضارة) تاريخا وواقعا ومستقبلا.

هناك لغات انقرضت وبادت، إما لعجزها الذاتي، وإما لانقراض المتكلمين بها، وإما لما تعرضت له من النكبات، ومن تلك اللغات المنقرضة لغة عاد، ولغة ثمود، واللغة اللاتينية، واللغة اليونانية القديمة، واللغة القوطية، ومنها بعض لغات أمريكا التي انقرضت بسبب ما تعرضت له من إبادة الاستعمار الغربي لسكانها الأصليين. وكذلك هو شأن لغات القبائل الأسترالية التي هي مهددة بالإبادة، حيث أجبر أهلها على ترك لغاتهم المحلية وفرضت عليهم اللغة الإنجليزية.

وبحسب تقرير لقناة الجزيرة، يكشف أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار الصادر حديثا عن منظمة اليونسكو، أن حوالي 2500 لغة مهددة بالاندثار حول العالم. فمن أصل 6000 لغة المستعملة في العالم انقرضت حوالي مائتي لغة على مدى الأجيال الثلاثة الأخيرة.

وتشير أحدث البيانات لمنظمة اليونسكو إلى أن 50/ بالمئة من لغات العالم مهددة بالاندثار. وأن لغة واحدة تنقرض كل أسبوعين، وهذا يعني أن 25 لغة تنقرض سنويا. وإذا استمر هذا الوضع سيؤدي إلى انقراض خمسين بالمئة من اللغات المهددة. وخطر الانقراض لا يشمل لغات الجنوب فقط، بل يشمل اللغات الشمالية أيضا، كلغات السويد والنرويج والدانمارك، التي صارت مهددة أمام الأنجلو أمريكية.

وفي مقابل ذلك هناك لغات أخرى بعثت بعد الموت، وجددت بعد البلى. ومنها اللغة الإيرلندية، واللغة العبرية.

فما الذي يميز بين (لغة الحضارة)، و(لغة حضارة)؟

إن لغة الحضارة يجب أن تتميز بعدد من الشروط، وإلا كانت مجرد لغة حضارة. ونذكر هنا، مما هدانا إليه الاستنباط بفضل الله تعالى، عشرة شروط، ويمكن أن تكون هنا شروط أخرى قد ندّت عنا، عسى أن يهدي البحث إليها:

1 ــ لغة عالمية

2 ــ لغة مكتملة

2 ــ لغة لا تشيخ ولا تنقرض.

3 ــ لغة متطورة في إطار ثابت

4 ــ لغة مستوعبة للتراث البشري

5 ــ لغة غالبة (قديما)

6 ــ لغة صامدة (حديثا).

7 ــ لغة المستقبل.

8 ــ لغة تستوعب كتابتها وأبجديتها ما لا تستوعبه كتابات اللغة الأخرى. وخصائص حروفها (الباشا 77 ــ 78) جهاز الصوت… إلخ..الباشا

9 ــ لغة متصلة الحلقات

10 ــ لغة توقيفية.

ونشرع لنا في بيان كل عنصر من هذا العناصر بعض بيان، مما يسمح به المجال.

 

(الدكتور حسن الأمراني، المغرب)

×