فاصبر لربك
5 مارس, 2020وكان أرفق بالناس
21 مارس, 2020كتاب “العلامة الشريف محمد واضح رشيد الحسني الندوي حياته وفكره وأعماله” للدكتور محمد أكرم الندوي
عني أسلافنا بفن التراجم والسير، وصنفوا في ذلك مصنفات قيمة، حفظت لنا صوراً عن أعلام الأمة في مختلف المجالات، وألفوا في السير، والطبقات، والفهارس، والبرامج.
والسيرة نوعان: سيرة ذاتية، وهي التي يعنى فيها الكاتب بسرد حياته وأحواله الشخصية، وقد تكون هذه الأحوال روحية، مثلما صنع الغزالي في كتابه : (المنقذ من الضلال).
وسيرة غيرية، وهي التي يترجم فيها الكاتب لغيره من الناس، من الأعلام بخاصة، وقد تتناول هذه السيرة علماً واحداً، وقد تعنى بعدد من الأعلام.
لم يتخلف المعاصرون عن هذا الطريق، فألفوا كتباً كثيرة تعرِّف بالأعلام من القدماء والمعاصرين، ومن المؤلفين من تناول المشهورين من الأدباء والأعلام، ومنهم من رافق الكتب الغميصة فاستخرج لنا منها سير المغمورين.
وكان لعلماء الهند يد فضلى في فن التراجم والسير، ومن أشهرهم ــ من المتأخرين ـــ السيد عبد الحي الحسني الندوي، ومن أهم كتبه: “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر”، ويحتوي على نحو خمسة آلاف ترجمة للعلماء والمشايخ والملوك والأمراء والشعراء وغيرهم من الأعلام”.
كما ألف الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في هذا الفن أكثر من كتاب، ومن ذلك كتاب: (المرتضى) ، وهو سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكتاب: (الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس)، وكتاب: (السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد، مجدد القرن الثالث عشر)، كما ألف في هذا الباب كتابه الشهير: (رجال الفكر والدعوة في الإسلام).
وها هو الدكتور محمد أكرم الندوي يتبع سنن أعلام ندوة العلماء، بوضع هذا الكتاب عن المفكر والأديب الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله.
ومن مزايا كتاب الدكتور أكرم عن الشيخ محمد واضح الندوي عنايته بأمرين: الأول هو الاهتمام بما تعنى به كتب السيرة، من تجلية جوانب حياة المترجم له تجلية شافية. والأمر الثاني هو أن هذا الكتاب ألفه أديب عن أديب، له به صلة عليمة وصداقة متينة، فكان أن جاء أسلوبه الأدبي نصاً على نص في البيان.
فقد كُتب الكتاب بأسلوب بليغ قلّ نظيره عند كثير من المعاصرين، وهو أسلوب من جذم الفصاحة، ويعكس لنا ما وصلت إليه العربية في شبه القارة الهندية من عناية وعلوّ شأن.
إنّ أسلوب المؤلف أسلوب مشرق متدفق، وفصاحته يكاد يعجز عنها بعض من ينسب نفسه إلى الأدب من العرب.
ومن أراد دليلاً على أسلوب المؤلف، فليقرأ نعيه للشيخ واضح الندوي، فإنه سيدرك من بلاغة الأديب من جهة، وتفجع المكروب من جهة أخرى، ما يفسر سر هذا التأثير الذي تحدثه كلمته في القلوب. ومما جاء في هذا النعي: (لقد نادى نعيُّ الندوة بأرفع صوت أن فارسها هوى، وأن جدارها قد تثلم، وأنه يندب العلم والأدب، والمروءة والكرم، وأندِرْ بهذا المفقود!؛ الذي ليس له ندٌّ موجود، فاسودَّت علي المناظر، واستكَّت علي المسامع، وفزعت في هذا الخبر بآمالي إلى الكذب والباطل، أحقاً يا أبناء الندوة! أن لستُ رائياً فقيد الكتابة والصحافة منذ اليوم إلا توهُّماً).
ولعل القارئ يلحظ كيف يمتص هذا الكاتب الهندي من عيون التراث العربي ما يحلي به بيانه، فهو ينظر ــ مما ينظر إليه ــ إلى مرثية المتنبي التي يقول فيها:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
وما أصدق قول المؤلف عن المترجم له: (سهل الفناء، طلق الوجه، باسم المحيا، قليل
التشكي للمصاب، مطهر عن الخنا، بعيد عن الباطل، صموت، طويل السكوت، ما زان السكوتُ أحدًا كما زان هذا الفقيدَ، وما حلَّى أحدٌ السكوتَ مثل ما حلاّه المرحوم!).
ولقد كان المؤلف يحرص على أن يحلي مطالع الأبواب أو الفصول بكلمة من كلمات المترجم له، مناسبة للغرض الذي يعالجه.
وفي الكتاب فوائد جليلة، ومنافع جمة، اعتمد في تدوينها على المصادر المعتمدة من جهة، وأفواه الرجال من جهة أخرى.
ومن الطريف أن مما يفيده القارئ من الكتاب، معرفة عدد من العلماء المغاربة الذين كان لهم شأن علمي في المشرق بصفة عامة، وفي الهند بخاصة.
أما المنهج، فلا يقتصر فيه المؤلف على سرد الأحداث، ولا عرض المضامين، بل هو صاحب بصيرة، ذو رأي سديد فيما يعرض له. ثم إنه يختار من درر الشيخ واضح ما يفتتح به كل باب.
ولا يعدم القارئ الكريم، وهويطالع سيرة المترجم له، أن يعثر على معلومات جليلة، منها ما أشار إليه الأستاذ واضح من أن اللغة العربية وصلت إلى تلك المنطقة البعيدة قبل الإسلام، أي أرض البنغال، لوصول العرب إلى ذلك الساحل الشرقي من الهند قبل الإسلام، ثم قامت إمارات إسلامية، فنشأت اللغة، وشاعت، وأثرت في اللغة البنغالية التي تعتبر من أقدم لغات الهند.
ويمكن القول إجمالاً: إن كتاب الدكتور محمد أكرم الندوي قد أدّى عن المثقفين دَيْناً كان عليهم أن يؤدوه لرجل؛ هو الأستاذ محمد واضح رشيد الندوي، خدم الأدب واللغة العربيين في شبه القارة الهندية خدماتٍ جليلةً، بغزارة تأليفه، وجمال عرضه، وصواب نظراته النقدية. وصدر الكتاب عن مكتبة سلمى الثقافية، بتطوان، في المغرب، الطبعة الأولى، 1441هـ، 2020م.
عرض: د/حسن الأمراني – المغرب