الإرهاب الصهيوني وفتاوى الحاخامات
8 يونيو, 2021الصامدون في وجه الاستعمار (3)
8 يونيو, 2021شعائر الله تعالى وتعظيمها (6)
مقدم أسرة إبراهيم إلى مكة:
كانت مكة قبل وصول إبراهيم عليه السلام إليها أرضاً جرداء قاحلة، بواد غير ذي زرع، لم يكن بها أنيس ولا أسباب عيش، من طعام وشراب وميرة، ولكن أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه إبراهيم عليه السلام بترك ولده الرضيع إسماعيل وأمه هاجر في هذه الأرض القاحلة لأجل الأهداف العظيمة، فاستسلم إبراهيم لأمر ربه، وأسكنهما بواد غير ذي زرع، لم يكن به ماء ولا أنيس، توكلاً على الله وامتثالاً لأمره، واستسلاما لقضائه، و عندما أراد العودة انطلق لسانُه بهذا الدعاء: “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” [إبراهيم:37].
إن هذا الوادي غير ذي زرع في الواقع مكان تاريخي، يقع فيه بيت الله العتيق الذي وُضع كأول بيت في الأرض لعبادته عزوجل، ووضع قواعدَه إبراهيمُ عليه السلام، يقول القرآن الكريم: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ” [آل عمران:96].
وقد أصبح هذا المكان المبارك بعد إقامة إبراهيم به، مركزاً للتوحيد ومثابة للأمن والسلام، بينما كان الأمن فيه مفقوداً، وعندما ترك إبراهيم عليه السلام ذريته بهذا المكان الخالي من العمران البشري ساوره الخوف عليها من الإغارة من قبيلة ظالمة تمرّ بهذا المكان، وتختطفها، وكذلك فكر كيف يحصل لها أسباب العيش في هذا الوادي، لأن أرضه كانت قاحلة، محاطة بالجبال الجرداء من كل جانب، قسا فيه الجو ، وفقد الماء، وغاب الأنيس، وأوحش المكان،، فدعا ربّه وقال: ” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ” [البقرة:126]. فاستجاب الله لدعاء نبيه، فأصبح هذا المكان مأموناً ومحفوظاً، تتوفر فيه أنواع وألوان من الأطعمة والأشربة والفواكه، وتتهيّا فيه كل نوع من أنواع أسباب الحياة وحاجياتها، وتتكدس في أسواقها أفضل البضائع والأمتعة وأجودها وأحسنها.
أساس عمران مكة:
بجنب ذكر أدعية إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، وردت آيات تلقى الضوء على تاريخ العمران في مكة، وتؤكد أن أساس العمران في مكة حيث تسكن قريش اليوم، على التوحيد الخالص، تقول: “وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ” [البقرة:125].
والمراد من كلمة “طهّر” الواردة في هذه الآية: التنقية من مظاهر الشرك بجنب التطهير الظاهري، ولذلك وردت آيات متعددة في القرآن الكريم،خوطبت فيها قريش أن يعلو نداء التوحيد بعد بعثة النبي الخاتم من المكان الذي وضع أساسُه على التوحيد والوحدانية.
التكريم الإبراهيمي:
ولإبراهيم عليه السلام نسبة خاصة وصلة خاصة بالكعبة المكرمة، فقام ببنائها من جديد، وعمرها بالعبادة، وأذن في الناس بالحج إليها،”وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” [الحج:27].
ونتيجة لهذه الصلة العميقة المخلصة ونجاحه فيما ابتلاه ربُّه، أعطاه الله تعالى مكانة عالية عظيمة وجعله إماماً للناس كافة: “وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” [البقرة:124].
من فضائل بيت الله:
ميَّز الله تعالى العالم السماوي عن العالم الأرضي، وجعله أعلى وأرفع، وكما قد خلق الله سائر الكائنات خلق هذه الدنيا والسماوات العلى، وأعطى كائناً منها أهمية وفضيلة بنسبته إليه دون سائر الأكوان، ومن هذه الكائنات ذات الأهمية والفضيلة الكعبة المقدسة التي جعلها بيته وإن كان كل مسجد من المساجد، يقال له بيت الله، ولكن وصف الله الكعبة في مواضع من القرآن بـ”البيت”، الأمر الذي يدل على أهميتها وفضيلتها وقال: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ” [المائدة:97]، وقال في موضع آخر: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى” [البقرة:125]. وقال في السورة نفسها: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ” [البقرة:127].
فقد جعل الله تعالى الكعبة المقدسة بيتَه، ونسب بناءها إلى عبده الحبيب ونبيه العظيم سيدنا إبراهيم عليه السلام، وابنه إسماعيل عليه السلام، واختار للبناء لفظة “القواعد” مما يدل دلالة واضحة على أنهما رفعا قواعد هذا البيت، بينما وضع أساسه أبو البشر آدم عليه السلام، فبذلك أظهر الله صلته الخاصة بهذه البقعة المباركة في الأرض، وهذا لا يقلل من مكانة السماوات التي هي أعلى من الأرض.
وجعل الله “الكعبة المشرفة” بنسبتها إليه بمكان من الأهمية والفضيلة يفوق ثواب صلاة فيها مائة ألف صلاة في المساجد الأخرى، فجاء في حديث نبوي شريف: “صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة” (شعبة الإيمان للبيهقي، فضل الحج والعمرة: 4144).
النسبة السماوية:
ويتضح من نسبة الكعبة المشرفة إلى الله تعالى أنه إذا وضع أي جزء من السماء إزاء أي جزء من الأرض تقوق نسبة ذلك الجزء السماوي مائة ألف ضعف، وذاك أن الله تعالى جعل الأرض وأهلها أسفل سافلين: “ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ” [التين:5].
ولكن جعل الله الإنسان بقدرته، وأودع فيه خصائص وصلاحيات تحمل الصبغة السماوية، ولذلك أنه رغم كون مكانته أسفل، يحمل مكانة سامية: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” [التين:4].
نعمة عظيمة:
أما الثواب والبركات التي تحصل بنسبة الكعبة إلى الله مباشرة، فيمكن أن تدرك قيمتها على الأقل بالفرق الحاصل من ناحية عدد الأجر، ولا يمكن أن ترى كل شيء بصورة ظاهرة، ولكن إذا بُيِّنت حقيقتُه فلا مانع من التسليم به، فإن الحضور إلى الكعبة، والجلوس أمامها بأدب، والدعاء والسؤال من الله رب العالمين متذرعاً بالكعبة، هو سبب خير وبركة.
والكعبة من ناحية ظاهرها بناء مربع، ولكن إذا شاهدها أحد بمشاعره وعواطفه القلبية يشعر بتأثيرها الخلاب، والحضور إليها وزيارتها كأنه في الواقع وصول الإنسان الأرضي إلى البقعة السماوية، وإذا تدبرنا في ذلك نجد أن من أكبر فضل الله علينا أنه وفر للإنسان رغم كونه ساكناً في الأرض، فرصة للاستفادة السماوية، فمن حسن حظ الإنسان أن يستفيذ منها أكثر فأكثر، ويضيف إلى ميزان حسناته وأعماله الصالحة.
ومع الفضائل التي وردت بشأن الحضور إلى الكعبة وزيارتها والصلاة في البيت الحرام، لابد أن يكون ببال الإنسان الذي يزورها أن لا يسيئ إليها، ولا تتطرق إلى ذهنه أفكار زائغة، فقد ورد في القرآن الكريم وعيد شديد لمن يريد فيه سوءًا، فيقول: “وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ” [الحج:25].
الكعبة نقطة أساسية للعالم:
ومن خصائص بيت الله الحرام أنه إذا نظرنا إليه بالنظر إلى مناطق العالم الأخرى وجدناه يقع في وسط المعمورة كنقطة أساسية في العالم مثل الناف في الجسم الإنساني، فكأن الله تعالى قد جعل بيته الحرام مركزاً للعالم الإنساني ومحوراً يدور حوله العالم .
وبيت الله هو بناء الكعبة، ولكن حدوده ليست محصورة فيها، بل أن الحرم المكي كله الذي بُيِّنت حدودُه، داخل في البيت الحرام.
مكان عظيم:
فإن بيت الله الحرام أعظم مكان على الأرض، كأن قطعة سماوية وضعت في هذا المكان، فزالت عنه صفته الأرضية، وحلت محلها الصفة السماوية، ليجد الإنسان المتبع للحق فرصة للاستفادة، وقد نال هذا المكان المقدس بفضل لله قبولاً عظيماً واسعاً، يأتيه كل عام آلاف مؤلفة من المؤمنين المحبين الصادقين، يروون غليلهم الديني، وينالون فرحة خاصة وراحة قلبية خاصة، مع تجرُّده عن كل ما يستهوي القلوب، ويستلفت الأنظار، ووقوعه في بلد بعيد عن جمال الطبيعة، ولكن الله تعالى كساه الجمال والجلال، وعطف إليه القلوب والنفوس، وجعله مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب،يودُّ الناس لو يسعون إليه على رؤوسهم، ويصلون إليه ببذل مهجهم ونفوسهم.
إنه مكان مقدس ونادر، هيأه الله تعالى لعباده الصالحين، وهو مركز رحمات الله وبركاته، ورمز عظيم لوحدة المؤمنين واجتماعهم، يجتمع فيه سائر المؤمنين باختلاف ألوانهم وأحوالهم وكيفياتهم وانتماءاتهم كمؤمن واحد، ويقدمون مثلاً رائعاً للوحدة والاجتماعية، ويعودون إلى أوطانهم حاملين لهدية البركات الإيمانية ويبلغونها إلى أهالي وطنهم.
فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي