تفتيت العالم العربي والإسلامي
6 يونيو, 2024غياب القيادة وأزمة الرجال
14 أغسطس, 2024من وحي الهجرة النبوية المباركة
د/ محمد وثيق الندوي
إن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية المباركة كثيرة جدًّا، لا تعد ولاتحصى؛ لأنها الفارق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العدل والجور، وبين الرحمن والطاغوت، وبين الفضلية والرذيلة، وبين اٌلإيمان والكفر، وبين البناء والتدمير، والحديثُ عنها يطول ولا يتسع له المقام في صفحات أو كلمات؛ لأن الهجرة النبوية المباركة أودعت ضمير الزمان مبادئ ومثلاً، شرفت بها الإنسانية، وسعد بها الإنسان، حيث هانت الحياة حين عزَّت العقيدة، وصغرت الدنيا حين عظم المقصد، ونبل الهدف، ووسعت الغاية، فما قيمة الحياة بدون هدف كريم، وغناء الدنيا بدون شرف، وأساس الحياة هي العقيدة، وبدونها يكون الذل والصغار، والمهانة والهوان، والجبن والخور، والشقاء والحرمان، وإن شرف الدنيا أن يعمل الإنسان على إقالة العثار، وإغاثة المظلوم، ونجدة الملهوف، ويعين على نوائب الحق، والهجرةُ النبويةُ تحمل سائر معاني الصبر والحلم، والاستقامة والاحتمال، والتضحية والإيثار، وردّ كيد الأعداء، ومقاومة الشر، ونشر الخير، والصمود والثبات على المبدأ والعقيدة، وعدم التفريط والتقصير في الهدف، والحياة الشريفة العزيزة أو الموت في طريق المبدأ السامي النبيل.
فنتعلم من الهجرة المباركة أنه لابدَّ قبل بدء العمل، من تحديد الهدف النبيل أولاً، ودقة التخطيط والإعداد، والأخذ بالأسباب، واتخاذ الوسائل الممكنة ثانيًا، من الصبر والقوة، والجلادة، وتحمُّل المشاق والمرائر في سبيل تحقيق الهدف المنشود، لأن التخطيط جزء من السنة، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هولاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين، كما أشار إلى ذلك الشيخ سعيد حوَّى في كتابه “الأساس في السنة” والدكتور على محمد محمد الصلابي في كتابه “السيرة النبوية”.
وتلقن الهجرة أن لا نلتفت يمينًا وشمالاً خلال الإعداد والتربية،مهما كان نوع الإغراء والتهديد، ونركز عنايتنا وجهودنا على الهدف المطلوب بغاية من الجدية والصرامة، ولا نتأثر بالإغراءات أو الشائعات والتهديدات، كما فعل الرعيل الأول في العهد المكي.
إننا نرى اليوم النظرة المادية قد طغت وسيطرت على النفوس والدول، فيُنْظَرُ إلى أمريكا على أنها هي القوة الكبرى الوحيدة في العالم، فنرى كثيرًا من دول العالم تخضع لسيطرتها وقوتها العسكرية المادية رغم ما تعانيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية، ومن تفسخ وانحراف في الأخلاق، وتفكك وفوضى في الأسر والبيوتات،وفضائح في الكنائس، وتنفذ رغباتها وإملاءاتها ولو على حساب عقيدتها، ونجد القوة العالمية تحت التأثير اللوبي الصهيوني وسيطرته تعمل على حرب الإسلام والمسلمين،وتدعم إسرائيل التي تنتهك جميع المواثيق الإقليمية والمعاهدات الدولية والاتفاقات العالمية على حساب الدول العربية والشعب الفلسطيني،وتمارس أبشع صور القتل والتدمير والعدوان والهمجية والبربرية في غزة العزة منذ نحو تسعة شهور، وتمارس الضغط على دول الشرق الأوسط لمنع المقاومين في غزة، وتوحى إلى الحكومات بالتضييق على العاملين في مجال العمل الإسلامي، وتحديد النشاط الديني، كما تكشف الوثائق السرية والتقارير الإعلامية، فكأنما قد عادت حالة الاستضعاف التي كان يعيشها المسلمون في مكة قبل الهجرة نظرًا إلى الوضع الذي يعيشه المسلمون في العالم اليوم.
ولكن هذا الوضع الحرج لن يدوم إذا قاس المسلم الأمور بالنظرة الربانية لا بالنظرة المادية، لأن النظرة المادية لا تغني ولا تسمن من جوع، فمن هنالك يتحتم على المسلم أن يعتصم بالنظرة الربانية مع الصبر والثبات والثقة بالله فيما ينوبه من مصائب وأزمات ومشاكل، لأن القوة لله جميعًا، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم سالمًا بعون الله، من الفئة المهاجمة المباغتة التي جاءت لقتله، وخاب العدو في مسعاه الخبيث، وإن القوة هي قوة الإيمان وقوة الوحدة، ولله جنود السماوات والأرض، فلا أمريكا ولا إسرائيل، ولا غيرها تدوم، ولكن الصراع بين الحق والباطل موجود، وإن الباطل سيزهق، إن شاء الله، فلا مجال لليأس والقنوط والإحباط، والتاريخُ يؤيد ذلك، فأين فرعون؟ فأين هامان والجنود؟ وأين لينين وستالين؟ وأين هتلر ومسوليني؟ بل أين إنجلترا التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها؟ وأين فلان وفلان ,,,,,.
ستنجلى الغمرات المتراكمة إذا نشأ فينا الإيمان إيمان الرعيل الأول، والثقة الكاملة بنصر الله، وتحقق الدخول في السلم كافة،كما لا بد من التدرُّج في العمل، بدل التهوُّر والتسرُّع، ومنهج التدرُّج منهجٌ تربويٌّ اختاره محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة.
إن المشاكل والنكبات التي أصيب بها المسلم اليوم لا يمكن الخروج منها إلا بالهجرة، ولكنها لا تكون إلا إلى دين الله، لا إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، إنها الهجرة من بيئة فاسدة إلى بيئة صالحة، ومن مألوفات كريهة إلى عادات حسنة وغايات طبية، ومن حياة الترهل والترف والانسجام مع كل شر وبلية، إلى حياة الجد والصرامة، والغيرة والحمية، وإلى القيام بعظائم الأمور، والصمود في كل عدوان وعصيان، بالصبر والقوة الإيمانية، والرجوع إلى مصدرى القوة والإيمان بإيمان وإخلاص صادقين، وهما الكتاب والسنة، وبه يتحقق وعد الله للمؤمنين بالنصر)وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون( [ النور55] )ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( [المنافقون:8].
فإن الهجرة النبوية-كما كتب الشيخ محمد الصادق عرجون في كتابه”محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم”-من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة أعظم حدث حوَّل مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين، ونظم، وأعراف، وعادات، وأخلاق، وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد، وتعبُّدات، وعلم، ومعرفة، وجهالة وسفه، وضلال، وهدى، وعدل، وظلم”.