إلى القرآن الكريم سورة نوح

الحج رمز للوحدة والتضامن
17 يوليو, 2022
الإسلام والسلام العالمي في الإسلام
21 أغسطس, 2022

إلى القرآن الكريم سورة نوح

الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر الأسبق)

قوبل النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن دعا إلى توحيد الله وعقيدة البعث بموجة شديدة من الإنكار المصبوغ بألوان الاستهزاء والسخرية، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون من أساليب الدعوة التذكير بما أصاب الأمم الخالية جزاء الإنكار والتكذيب.

وفي هذه السورة يقص الله على نبيه موقف أول رسول بعثه للبشر فدعاهم إلى مثل دعوته، وقوبل منهم بمثل ما قوبل به، تثبيتًا له على دعوته، وتسلية له فيما يصيبه، وتهديدًا لقومه – إن استمروا على العناد والاستهزاء – بعاقبة أسلافهم حينما استمروا على الكفر والعناد.

وللعرب رابطة خاصة بنوح عليه السلام، وهي رابطة النبوة، ففي التذكير بقصته تهديد لهم بجانب ما كان فيها من النقمة التي أخذت المكذبين، وامتنان عليهم بما كان فيها من النعمة التي أنقذ بها نوح، ومن آمن معه، ومنه كان آباؤهم الذين بواسطتهم ظهروا في الوجود وتكونوا شعوبًا وقبائل وانتشروا في الأرض.

وإلى هذا تشير آية الحاقة:

“إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ” [الحاقة:11].

وقد تكررت في القرآن بأساليب مختلفة بين الطول والقصر تسلية للرسول وتذكير للقوم بقصة نوح عليه السلام، وعنيت هذه السورة المسماة باسمه بأمور:

أولها: دعوة نوح وأصولها:

بيان دعوة نوح، وأنها ترتكز على أصول ثلاثة:

-عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام.

-تقوى الله باجتناب المعاصي التي تفسد الأخلاق وتفكك الروابط بين الجماعات.

-إطاعة الداعي فيما يأمر به عن ربه.

وهذه الأسس الثلاثة هي دعوة كل رسول جاء بعده، وهي مصاعد الحياة الطيبة تعلو الأمم إذا تمسكت بها، وتسقط إذا انحرفت عنها: “إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ” [نوح:1-3].

ثانيها:فواعد الدعوة:

بيان فوائد هذه الدعوة التي تعود عليهم بخيري الدنيا والآخرة إذا قبلوها وآمنوا بها، والآيات ترشد إلى أنهم ينتفعون بها في نواح ثلاث:

-ناحية الروح، تمحو عنها ما اقترفته من الذنوب: “يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ” [نوح:4].

-ناحية الأجل، فيها يستوفون أجلهم الطبيعي دون أن يعاجلهم العذاب المقدر عليهم إذا استمروا في الكفر والمعاصي:

“وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى” [نوح:4].

-ناحية الرزق، بفتح أبوابه وتوجيههم نحو العمل في الحياة، والانتفاع بما سخر لهم فيها: “يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا” [نوح:11-12].

ثالثها: سبل الدعوة:

أن نوحًا سلك معهم في الدعوة السبل الطبيعية لكل دعوة جديدة: أسرّ وأعلن، وجمع بين الإسرار والإعلان، ومع كل هذا:

“جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا” [نوح:7].

دعاهم ببيان ما في الدعوة من الخير الروحي والمادي، ثم دعاهم بلفت الأنظار إلى آيات الله ونعمه في أنفسهم وفي الخلق كله:

“مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا” [نوح:13-20].

لفت أنظارهم بعد أن هز عواطفهم إلى برهان العقل، فنبه إلى خلق أنفسهم والأطوار التي مرت بهم، ونبه إلى خلق ما يحيط بهم من عالم علوي وسفلي على وجه يكفل لهم خير الدنيا وطيب الحياة.

ومن دقائق الإشارات العلمية في نظام الكون أن الآيات لم تجعل الشمس في السماوات وهذا يتفق تمامًا مع ما عرف أخيرًا من أن الشمس مركز النظام الشمسي، وأن الكواكب تحف بها، وأن القمر له مركز فيها ومعدود منها:

“وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا” [نوح:16].

رابعها:عناد وإعراض:

أنه على الرغم من هذه الطرق المختلفة، وتلك البراهين الواضحة، نبذ قوم نوح دعوته، واشتد إنكارهم لها، وقد صور نوح إعراضهم، مرة بوصف في أنفسهم: سدوا آذانهم وتغطوا بثيابهم، ومرة بالشكوى إلى الله الذي أرسله بهذه الدعوة، وأشار إلى سبب إعراضهم، وهو اتباع الرؤساء المفتونين بالأموال والأولاد: “قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا” [نوح:21].

ثم كشف عن دعوة الباطل التي خدعهم بها هؤلاء الماكرون: “وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا” [نوح:23].

وهنا أبرز أسماء الآلهة التي عبدوها من دون الله، هي أسماء لتماثيل كواكب اعتقدوا أنها منبع الخير، أو أسماء لقوم صالحين أطلقوها على تماثيلهم التي اتخذوها معبودات وآلهة من دون الله، ولعل هذه الفترة كانت مبدأ زلة العقل البشري في اتخاذ التماثيل وعبادتها، ومنه انحدر تقديس البشر من الأنبياء والأولياء بما يقدس به خالق البشر.

ومن هنا حظر الإسلام صنع التماثيل وإقامتها بفكرة التقديس والعبادة، وبذلك اجتث جذور الوثنية، ونعى على المستغيثين والمستعينين بغير الله.

خامسها:عاقبة المكذبين:

بيان العاقبة التي صار إليها القوم جزاء إعراضهم عن سماع الحق: “مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا” [نوح:25].

وقد عرضت سورة هود إلى حادثة الطوفان التي أغرقت القوم: “وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” [هود:44].

ثم أشارت الآيات إلى حكمة الله في أخذ الجبارين المستكبرين، وهي ترجع إلى إرادة تطهير العالم من جراثيم الشر والفساد: “إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا” [نوح:27].

وإزاء هذه العاقبة السيئة التي تقطع على الجبارين حياتهم تشير الآيات إلى العاقبة الطيبة لعباده المؤمنين: “رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا” [نوح:28].

أما بعد:

فتلك قصة نوح كما وردت في سورة نوح قصها الله على كفار مكة، وعلى جميع الناس، وهي مثال حي ناطق بسنة الصراع بين الحق والباطل في كل زمان ومكان، وناطق بأن فساد العقلية البشرية ليس من أصل الطبيعة وإنما هو من خداع المستكبرين الماكرين، وناطق بأن الحق مهما طال ركوده لابد أن يعلو صوته، وينتشر في العالم ضوؤه، ويعم الكون خيره. (مع الشكر لمجلة الأزهر، أبريل 2022م، الجزء: 9، السنة: 95)

×