الصامدون في وجه الاستعمار (4)
26 يوليو, 2021الشاه معين الدين أحمد الندوي: حياته وأعماله
26 يوليو, 2021العالم كله رمضان
سريعاً مضى شهر رمضان الكريم بنفحات الله تعالى فيه، فعاش الموفقون إلى مرضاة الله تعالى فيه أجواء روحية ولحظات إيمانية ونسمات ربانية، فصاموا نهار أيامه فتأدبوا فيها بأدب الصيام، فامتنعوا عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
كما امتنعوا عن اللغو والرفث والفسوق، فضبطوا أنفسهم وحكموها، وكان شعار كل منهم في ذلك على الرغم من المستفزات والمثيرات “إني صائم إني صائم”(1)، كما عمروها بالذكر والقرآن والصدقات وإتقان الأعمال ابتغاء مرضات الله عز وجل فكانوا نهاره في مقام الإحسان بمراقبة المولى عز وجل، وفي لياليه كانت أرواحهم ترهف وترفرف مع جمال وظائف أمسيات الشهر الفضيل ما بين قيام بالصلاة تارة بالتروايح وتارة بقراءة القرآن وتارة التهجد بالصلاة والذكر والتسبيح والدعاء التماساً لليلة القدر في العشر الأواخر منه، وبالتضرع بالدعاء الخالص لله فيها بكل حسن وجميل من خيري الدنيا والآخرة، لقد كانوا في مدرسة إيمانية تربوية روحية، يهذبون فيها أنفسهم ويدربونها على حب الخير والمسارعة فيه، وعلى اجتناب الشر والإحجام عنه، وختموا الشهر بصدقة الفطر تكفيراً لما عسى أن يكون قد حاق بصيامهم من لغو أو رفث، وطعمة للفقراء والمساكين، وإغناء للمعوزين عن الطواف في يوم العيد.
ومن فضل الله تعالى على عباده المتقين الذين وفقوا في رمضان إلى الخيرات أنه سبحانه أراد أن يكافئهم طوال العام بألا يحرمهم من روحانيات رمضان ولا من فيوضاته عليهم فيه، وذلك بأن شرع لهم بقية العام من الوظائف الرمضانية ما به يتنسمون أجواءه، ويتأدبون بآدابه، ويستجرون روحانياته، وكأنه سبحانه قد عجل لهم الإجابة في حياتهم الدنيا، فساق لهم من أمارات القبول بأن يكون العام كله رمضان، ويمكن لكل ذي بصيرة أن يلتمس هذا الفضل العميم والفيض الكريم من المولى عز وجل على عباده المتقين، فيما سن لهم من عبادات وآداب بقية العام من بعد رمضان إلى رمضان القابل.
فإذا كان الصيام هو النسك الأساس والوظيفة الأم في رمضان الكريم، فإن الله تعالى شرع لعباده المتقين من صيام النافلة بعد رمضان ما به ينتفحون بنفحات الصيام وأدبه على مدار العام؛ فها هي السنة النبوية – التي ما ينطق صاحبها عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى – قد وردت بسنية صيام ست من شوال تلو رمضان بعد يوم عيد الفطر؛ وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر”(2)، وهو صيام يعقب صيام رمضان جبراً لما عسى أن يكون فيه من خلل أو لمم، وشكراً لله تعالى على ما أنعم به على عباده بالتقرب إليه بمثل ما افترضه عليهم في رمضان، وتحصيلاً لثواب صيام عام كامل، والله يضاعف لمن يشاء، فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام تمام السنة؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، وفي كل شهر شرع صيام ثلاثة أيام نافلة هي الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام”(3) وعن جرير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وهي أيام البيض: صبيحة ثلاثة عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة”(4)، وفي كل أسبوع من بقية الشهور شرع صيام يومي الاثنين والخميس، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس”(5)، وعن أبي هريرية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم”(6)، كما ندب إلى صيام شهر الله المحرم نافلة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”(7)، كما ندب إلى صيام يوم عرفة وعاشوراء، ورغب فيهما؛ فعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية”(8)، كما ندب إلى الصيام في جملة الأعمال الصالحة في العشر الأول من ذي الحجة، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة” قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”(9)، كما شرع وحبب في صيام يوم وإفطار يوم لمن لديه قدرة على ذلك، اقتداء بصيام نبي الله داؤد عليه السلام؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داؤد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً”(10)، فمن تحرى صيام تلك النوافل بقية عامه بعد رمضان ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كان في أجواء رمضان ونفحاته طوال العام.
وإذا كان رمضان شهر القرآن مضماراً للإكثار من القراءة والتدبر، فإن من شرح الله صدره بالقرآن في رمضان لفي بحبوحة من أن يستكثر من مائدة القرآن فيما بعد رمضان، بأن يجعل له راتباً يومياً مما تيسر له من القرآن، فيكون كالحال المرتحل، ما أن يختم ختمة حتى يبدأ في ختمة جديدة، وله بكل حرف يقرؤه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف؛ فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”(11).
وإذا كان رمضان شهر الدعاء والذكر فإن العام كله مضمار للدعاء والذكر؛ قال تعالى:
“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” [البقرة:186].
وقال تعالى:
“فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ” [البقرة:152].
وإذاكان الله تعالى قد اختص رمضان بليلة القدر التي يستجاب فيها الدعاء فإن في بقية أيام العام أوقات هي مظنة الإجابة، كالثلث الآخر من كل ليلة، وكساعة لا بعينها من كل يوم جمعة، وأثناء السجود من كل صلاة؛ فأٌقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وعند الفطر من كل صوم، ومنه صوم النوافل بعد رمضان؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب عز وجل: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين(12).
وإذا كان رمضان شهر الجود والكرم والإنفاق والبذل بالإطعام والصدقة وصلة الأرحام، فإن البذل والكرم والجود والإطعام وصلة الأرحام في كل العام طريق إلى القبول ودخول الجنان، وممحقة للسيئات، ووقاية من مصارع السوء، وتنمية للأموال، ومضاعفة للحسنات، والله يضاعف لمن يشاء، ومن تعود الإنفاق والبذل في رمضان كان هذا ديدنه بقية العام.
وإذا كان الصيام جنة ووقاية بضبط النفس ومنعها من اللغو و الرفث والغيبة والنميمة والسباب، وكانت كل تلك آداباً تحلى بها الصائم في رمضان، فإن استمراره عليها بقية عامه أمارة على قبوله، وتغير حاله، وخروجه من رمضان بحال غير الحال، فما اجتنبه الصائم في رمضان هو محرم في غير رمضان.
وإذا زاد حرص المؤمن على صلاة الجماعة في أوقاتها ابتغاء عظيم الثواب في رمضان، فإن الله تعالى جعل الصلاة لوقتها بقية العام من أفضل الأعمال، كما وعد على مضاعفة أجر الصلاة في جماعة عن صلاتها فرداً بخمسة أو بسبعة وعشرين جزءاً طوال العام.
إن رمضان مدرسة للفضائل والآداب والمكارم، يتخرج فيها العباد لينهجوا نهج الفضيلة في كل العام، على نحو يستطيع المؤمن معه أن يجعل العام كله رمضان، وكيف لا! وقد شرع الله تعالى في بقية عام المؤمن من الوظائف والقربات صنو ما كان في رمضان، كما جعل التزام كل ذلك أمارة على قبول ما كان قد وفق إليه من فضائل فيه، على نحو نستطيع معه أن نقول: لو فقه الناس حكمة نفحات الله تعالى في رمضان، وانتبهوا إلى ما بعده من نفحات في بقية العام لأدركوا أن العام كله رمضان.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يوفقنا بقية العام إلى ما يحبه ويرضاه، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
الهوامش:
- أخرجه البخاري عن أبي هريرة برقم: 1894، ومسلم برقم: 1151.
- رواه مسلم، عن أبي أيوب الأنصاري، رقم: 1164.
- رواه البخاري، رقم: 1981.
- سنن النسائي، رقم: 2420.
- سنن الترمذي، رقم: 745.
- سنن الترمذي، رقم: 747، والنسائي، رقم: 2358.
- رواه مسلم، رقم: 1163.
- مسند أحمد، رقم: 22535.
- سنن الترمذي، رقم: 757.
- صحيح البخاري، رقم: 3420، ومسلم بمعناه، رقم: 1159.
- سنن الترمذي، رقم: 2910.
- سنن الترمذي، رقم: 2526.
أ. د. حسن صلاح الصغير