فن البقاء

طفرة في كراهية الأجانب تجتاح العالم تزامناً مع جائحة كورونا
30 يوليو, 2020
أحجاج بيت الله ألف تحيّة
30 يوليو, 2020

فن البقاء

اليهود قوم غضب الله عليهم، أفلم يكن الأحرى بهم أن ينقرضوا ويبيدوا، وأن يلقى بهم عامل”الغضب” في غيابة الخفاء؟

اليهود قوم ضربت عليهم الذلة والمسكنة، أفلم يكن يقتضي ذلك أن لا تزول عنهم الذلة والمسكنة للأبد؟ وأن يعيشوا-إن عاشوا- فقراء، أذلاء، مستضعفين؟

ذلك ما يتطلبه العقل، وتقتضيه سنة الله، ونعقله من قول الله عز وجل: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة:٦١]

وبالعكس من ذلك نرى اليهود في مختلف فترات التاريخ رغم موجات الحقد والكراهية الواسعة ضدهم، قد قبضوا على زمام العالم بأيدي من حديد، ولا سيما في عصرنا المعاصر لقد استتب لهم من السيطرة والنفوذ والاستيلاء مايقضى منه العجب العجاب، فلا يشذ عنهم شاذ، ولا يفلت عنهم شارد، ولم يبلغ قوم ما بلغوه، ولم يتمكنوا مما تمكنوا منه، مهما فاقوهم عددا، ومساحة، وصناعة، وتقنية، وثقافة، وحضارة، ودعاوي عريضة.

فمن الطبيعي أن يحز ويدغدغ في النفوس هذا السؤال: كيف استطاع اليهود أن يقهروا عوامل السقوط والانهيار، وأسباب الانقراض والفناء؟ هل بالتخلي عنها أو بالتغلب عليها؟

لا هذا ولا ذاك! بل قهروها بتعلم “فن البقاء”، فطنوا إلى أسباب البقاء فاختاروها، ودفعوا عن أنفسهم عوامل السقوط والانهيار في هذه الدنيا ولو لحين، يكتب المؤرخ الشهير ول ديورانت: “إن قدرة اليهود على الإقامة من كبوتهم، وتخطى المحن التي حلت بهم، لهي إحدى عجائب التاريخ، التي تترك في النفس انطباعا، وهي جزء من “المرونة البطولية” التى أظهرها البشر عامة بعد كوارث الحياة”. (قصة الحضارة: 9/8947)۔

إن “المرونة البطولية” لهي من أهم عوامل البقاء، ومن أعظم أسباب النهوض بالأمم التى يلاحقها الانحطاط، ويطاردها الخوف، وتلتصق بها الكراهية والنفور، واليهود تعلموها وطبقوها على حياتهم فبقوا على رغم أنف كثير ممن حاولوا القضاء عليهم، وطبعا ليسوا هم المسلمين، فالمسلمون مأمورون في شريعتهم بأن يوفروا فرص الحياة لجميع الأمم والشعوب كما وفروا لليهود، ويشهد بذلك تاريخهم.

وهنا نقدم بعض الأمثلة لهذه “المرونة البطولية” التي اختارها اليهود في العصور الوسطى، إذ كانوا يتأرجحون بين الموت والحياة في البلاد المسيحية:

1-أغلق المسيحيون في العصور الوسطى على اليهود أبواب مناصب الحكومة، وسدوا عليهم جميع المنافذ، فما قاموا يقاومون الحكومة، وما ضيعوا طاقاتهم في المجابهة، بل تحولوا بدافع من “المرونة البطولية”إلى فلاحة الأرض، فعمروها، وأنشأؤا حقولا واسعة، وبساتين غناء، وجنات خضراء، حتى كادت البلاد المسيحية التى سكنوها، أن تكون عالة عليهم، فعلا شأنهم، وغلا قدرهم، وشهد المؤرخون بأن اليهود عندما أخرجوا من أسبانيا والبرتغال اضمحلتا، على حين انتعشت هولندة التي هاجروا إليها.

2-لما رأي المسيحيون فضل اليهود واجتهادهم في عمارة الأرض، وبالتالي سيولة الأموال والثروات، وارتفاع القدر والمنزلة، حسدوهم فمنعوهم حق تملك الأرض وحرموهم من أراضيهم، فماذا فعل اليهود؟ هل قاتلوا من أجل الأرض؟ لا، بل تحولوا بدافع من “المرونة البطولية” إلي ميدان التجارة الفسيح، فاحتكروه وجابوا الأرض وتخطوا الحدود۔۔۔إلى أن سيطروا على المراكز التجارية، وأثروا ثراء فاحشا۔۔۔وفاضت ثرواتهم عن حاجاتهم، فكانوا ينفقون أموالهم المكدسة لإرضاء الحكام المسيحيين، اتقاء سخطهم واضطهادهم، وطالما فرضت عليهم ضرائب باهظة، ظالمة، ولكنهم أدوها كضريبة عن رؤوسهم، وكم من مرة طالبتهم الحكومة المسيحية أن يمولوا حملة كاملة صليبية ضد المسلمين فامتثلوا لها، واشتروا أمنهم المؤقت المحدودبأموالهم.

3-سيطرة اليهود على التجارة ونفوذهم عليها كدر على المسيحيين صفوهم، فأقاموا العراقيل والعوائق في سبيلها، منعوهم أن يشتروا من المسيحين أو يبيعوهم، حتي أنكرت السفن نقل بضائعهم، فكسدت تجارتهم، وخسروا خسارة عظمى، وهنا أمسكتهم “المرونة البطولية” قبل أن تنهار عزيمتهم، وتخور قواهم فشحنوا رصيدهم المتبقي في الحجم الضخم من القروض للمسيحين فثقلوهم بالديون والفوائد الربوية رغم حرمتها في الشريعة الموسوية، فكادوا أن يستعبدوهم ويستعبدوا العالم كما هو ملموس وظاهر للعيان اليوم.

فما نراه اليوم لليهود من قوة ونفوذ، ليس ناشئا عن رضى الله عنهم، بل “غضب الله” على اليهود مازال قائما حتى اليوم، ودليل ذلك اعتداءهم على الله وعلى الناس، بتورطهم في المعاملات الربوية الجائرة، وقتل الناس وسفك دماء الأبرياء من أجل توسيع سيطرتهم ونفوذهم، وإثراء صناديقهم، إلى جانب كفرهم وجحودهم للحق، فلو زال غضب الله عنهم لرحمهم ووقاهم المعاصي والسيآت، ولتناهوا عما كانوا يفعلون، ولكن لم نعهد منهم ذلك، وأما مسكنتهم وهي “الذل النفسي” فهي مضروبة عليهم كذلك، ودليل ذلك اختفاءهم وراء الجدر، ودسائسهم ومكائدهم من وراء الستر، فهم الأيدي الخفية وراء كل ما يحدث عالميا—ولكنهم رفعوا عنهم ذلهم المادي والجسدي رفعا مؤقتا تتخلله فترات ذل وخوف وتنازع للبقاء، بفضل تعلمهم “فن البقاء”۔۔۔ولعل الله أشار بالاستثناء إلى هذا في قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (سورة آل عمران-١١٢)

في هذه الآية آيات للمتأملين، فضرب الذل على اليهود سنة إلهية، لها موجباتها، ثم يفصلهم عن هذه السنة الإلهية فصلا مؤقتا متفرقا قانون إلهي آخر، وهو المذكور في قوله (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس) لقد تمثل هذا الاستثناء كجزء من أجزاءه وصورة من صوره، في “المرونة البطولية” التي اختارها اليهود كفن للبقاء، ولم يشمل الإستثناء في الآية “الغضب” و”المسكنة”، فقال الله بعد ذلك: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)، فاليهود-إذن- مغضوب عليهم، ومضروبة عليهم المسكنة للأبد، ولكنهم استطاعوا أن يرفعوا عنهم الذل المادي بممارستهم ومعالجتهم “فن البقاء”.

فما للمسلمين وهم من هم عند الله، ولهم ما لهم على الله كما لله عليهم، لا يمارسون هذا الفن! ولا يجربون “المرونة البطولية” كفن للبقاء! في البلاد التي يواجهون فيها مثلما واجهه اليهود عبر التاريخ، مع الاحتفاظ بروح شريعتهم، وغاية بعثتهم، ونقاء سريرتهم، وجمال علانيتهم، وصدق شهامتهم، وصلابة عودهم، ورباطة جأشهم، احتفاظا يتلخص في كلمتين لا ثالث لهما: أناة القط، ووثبة الأسد.

 

(سلمان نسيم الندوي)

×