لا تغيِّروا تاريخ البلاد!
30 يوليو, 2020عودة “آيا صوفيا” بين الموقف الفقهي والأخلاقي
30 يوليو, 2020محمد الفاتح لم يفتح القسطنطينية فقط … ولكنه غيّر تاريخ أوربا أيضًا
خضع السلطان محمد – شأنه في ذلك كل أمير عثماني – لنظام تربوي صارم تحت أشراف مجموعة من علماء عصره المعروفين إلى دراسة أكاديمية منظمة، وهو ما يزال غضاً فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم العصرية –آنذاك- من رياضيات، وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية نظرية وتطبيقية، كان السلطان محمد يشترك في الحروب التي كان يشنها والده السلطان مراد الثاني ضد أوربا أو التي كان يصد فيها اعتداءاتهم.
قضى محمد فترة إمارته في مغنيسيا تحت إشراف مجموعة من علماء الدين، وكان محمد محظوظاً إذ كان المشرفون عليه من أساطين علماء العصر، في مقدمتهم الشيخ آق شمس الدين والملا الكوراني. (عالم الدين عند العثمانيين الأوائل كان عالماً موسوعياً في شتى علوم المعرفة في عصره). وقد أثرت مجموعة العلماء هذه في تشكيل الأمير الصغير ونجح العلماء في تشكيل اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية، وكان الشيخ آق شمس الدين صارماً مع الأمير حتى أن السلطان محمد وهو سلطان قال لأحد وزرائه عن شيخه هذا: أن احترامي لهذا الشيخ احترام يأخذ بمجامع نفسي وأنا مائل في حضرته مضطرباً ويداى ترتعشان”.
ثقافة الفاتح:
درس السلطان محمد بجانب دراسته الأكاديمية المنظمة، اللغات الإسلامية الثلاث التي لم يكن يستغني عنها مثقف عصري آنذاك وهي: العربية والفارسية والتركية، والسلطان محمد الفاتح شاعر له ديوان شعر بالتركية، وله بيت مشهور يقول فيه:
نيتي هي الامتثال للأمر الإلهي “جاهدوا في سبيل الله”.
وحماسي أنما هو حماس في سبيل دين الله.
وعرف السلطان محمد أيضاً اللغات: اللاتينية واليونانية والصربية، ولا تخفى أهمية هذه اللغات لأمير في طريقه لسلطنة الدولة العثمانية.
فترة إمارة محمد في مغنيسيا جعلته – بفضل توعية مجموعة أساتذته – أكثر الأمراء العثمانيين وعياً في دراسة علوم التاريخ والجغرافيا والعلوم العسكرية خاصة وإن أساتذته وجهوا اهتمامه إلى دراسة الشخصيات الكبيرة التي أثرت في مجرى التاريخ، وأبانوا له عن جوانب العظمة في تلك الشخصيات كما وضحوا له نقاط الضعف فيها أملاً في أن يكون أميرهم ذات يوم أكثر الحكام عبقرية.
ولاشك أن الشيخ آق شمس الدين استطاع أن يلعب دوراً كبيراً في تكوين شخصية محمد وأن يبث فيه منذ صغره أمرين هما اللذان جعلا منه فاتحاً، وهما:
- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي: “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش”.
وعن تحقيق النقطة الأولى يكفي هنا أخذ قطاع تاريخي في حياة السلطان محمد بعد أن أصبح سلطاناً للدولة لنرى فيه حملاته العسكرية، واكتفى هنا بتعداد حروبه البرية على الجبهة الأوروبية فقط.
عام 1453م فتح القسطنطينية، عام 1453م – 1459م فتح بلاد العرب، 1460م فتح بلاد المورة، 1462م فتح بلاد الأفلاق، 1463-1479م فتح بلاد ألبانيا، 1463-1465م فتح بلاد البوسنة والهرسك، 1476م حرب المجر.
ومنذ حرب بلاد المجر وحتى وفاة الفاتح (عام 1481م) دخلت الدولة العثمانية في حروب بحرية كثيرة منها: ضم الجزر اليونانية عام 1479م وضم أوترانتو عام 1480م، ومعلوم أنه كان قد أعد بالفعل جيوشه وتحرك على رأسها لمحاربة المماليك إلا أن الموت عاجله.
مؤشرات فتح القسطنطينية:
رأي محمد السلطان أن فتح القسطنطينية كما أنه يحقق أملاً عقائدياً عنده فإنه أيضاً يحقق للدولة العثمانية أيضاً يسر فتوحاتها في منطقة البلقان وحتى تكون بلاده متصلة لا يتخللها عدو، وكانت القسطنطينية تمثل الأرض العدوة الواقفة في طريق الفتوحات في أوربا، فبدأ في عاصمته أدرنة الاستعدادات لعملية فتح القسطنطينية ومن ذلك صب المدافع خاصة الضخم منها والاستعداد لنقل هذه المدافع إلى أسوار المدينة.
ثم رأى السلطان محمد أن جده بايزيد الصاعقة كان قد بنى للغرض نفسه وهو محاولة فتح القسطنطينية قلعة على الضفة الآسيوية من البسفور سماها “اناضولو حصارى” أي قلعة الأناضول، كانت هذه القلعة تقوم على أضيق نقطة من مضيق البسفور، فقرر محمد أن يبنى في مواجهة هذه القلعة على الجانب الأوربي من البوسفور قلعة سماها (روملي حصارى) أي قلعة منطقة الروم (يطلق الأتراك على الجانب الأوروبي من تركيا والمنطقة الملاصقة والمعروفة الآن باسم البلقان باسم روم أيلي أي منطقة الروم) وكان القصد من هذا هو التحكم في البسفور تماماً، وكان السلطان محمد هو الذي وضع بنفسه تخطيط هذه القلعة ونفذها المعماري مصلح الدين أوغلو 7000 عامل أنهوا مهمتهم في أربعة أشهر كاملة.
تم البناء فخرج بعض الجنود العثمانيين للتفرج على القسطنطينية فما لبث أن وقع بينهم وبين اليزنطين المجاورين لأسوار المدينة بعض حوادث شغب كان لها رد فعل عند السلطان محمد فأصدر أوامره بإبعاد البنزنطيين المجاورين للأسوار وكذلك إبعاد القرويين المجاورين للمدينة، فقام إمبراطور بيزنطة قسطنطين دركازين بإخلاء القرى المجاورة وسحب سكانها إلى داخل المدينة ثم أمر الإمبراطور بإغلاق أبواب القسطنطينية وإحكام وتاجها.
وبينما الاستعدادات العثمانية تجرى على قدم وساق في أدرنة لفتح القسطنطينية كان الوضع في المدينة غاية في الاضطراب، فالإمبراطور قسطنطين يطلب معونة عاجلة من البابا نيقولا الخامس، فاستجاب الباب واربل الكاردينال ايزودور إلى القسطنطينية، فتوجه هذا الكاردينال وهو كاثوليكي إلى كنيسة أيا صوفيا وأقام فيها المراسم الكنيسية على الأصول الكاثوليكية مخالفاً بذلك بل ومتحدياً لمشاعر شعب القسطنطينية الأرثوذكس، وقف الشعب يتفرج على الكاردينال المنقذ باشمئزاز بالغ كان إمبراطور القسطنطينية يميل إلى فكرة اتحاد الكنيستين الأرثوذكسية، والكاثوليكية أما رئيس الحكومة لوكاس نوتاراس مع جناديوس (الذي صار بطريكا بعد الفتح) فقد عارضا بشدة هذا الاتحاد خوفاً على الكاثوليكية من الفناء، وقال نوتاراس قولته الشهيرة: “إني أفضل رؤية العمامة التركية في القسطنطينية على رؤية القبعة اللاتينية” ولم يكن البيزنطيون قد نسوا بعد الأعمال الوحشية التي قام بها اللاتين عندما احتلوا القسطنطينية عام 1204م، ومع ذلك فإن الكنيسة اللاتينية لم تتوان عن إرسال موجات المتطوعين إلى القسطنطينية بناء على طلب إمبراطورها العون، لكن مجيء إيزيدور لم يحقق أدنى نتيجة في مسألة اتحاد الكنيستين.
الحصار والفتح:
وفي أبريل 1453م حاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً واشترك في الحصار من الجنود البحرية 20,000 جندي على 400 سفينة، أما القوات البحرية فكانت 80,000 جندي، والمدفعية 200 مدفع.
وقفت القوات البحرية العثمانية بقيادة بلطة أوغلو سليمان بك على مدخل الخليج الذهبي وكان عليه تدمير الأسطول البيزنطي المكلف بحماية مدخل الخليج، ولأن البيزنطين كانوا قد أغلقوا قبل الحصار الخليج بسلسلة حديدية طويلة يصعب من جرائها دخول أي سفينة إلى الخليج، فقد كان هذا أكبر معضلة أمام العثمانيين لأن سفنهم كان عليها أن تحمل الجنود وتدخل الخليج لا نزالهم، لكي يضربوا القسطنطينية.
ثم جاءت 3 سفن جنوبية وسفينة بيزنطية بقيادة القائد الشهير جوستنياني أرسلها البابا للدفاع عن القسطنطينية ولنقل الإمدادات إليها، جاءت هذه السفن ولم تستطع البحرية العثمانية منعها، فبعد معركة عنيفة مع البحرية العثمانية تغلب جوستنياني ومضى بسفنه إلى الخليج، ففتح لها أهل القسطنطينية السلسلة الحديدية وأدخلوها، وكانت هذه الحادثة دافعاً لكي يفكر السلطان محمد في خطة عسكرية شهد لها القواد العسكريون بالبراعة.
كانت هذه الخطة تقضي بنقل 67 سفينة من السفن الخفيفة عبر البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج بتفادى السلسلة، وتمت هذه العملية بوضع أخشاب مطلية بالزيوت على طول المنطقة المذكورة، ثم دفعت السفن لتنزلق على هذه الأخشاب في جنح الظلام، بعد أن استطاعت المدفعية العثمانية بإطلاقها مدافع الهاون أن تشد انتباه البيزنطيين إليها وبالتالي لم يلتفت أحد لعملية نقل السفن إلى الخليج.
نقلت السفن وأنزلت إلى الخليج ووضعت الواحدة تلي الأخرى على شكل جسر على عرض الخليج، حتى استطاع الجنود الانتقال عليها وصولاً إلى بر القسطنطينية، وما أن جاء الصباح إلا والدهشة قد تملكت أهل القسطنطينية، يصف المؤرخ دوكاس وهو بيزنطي عاصر الحادثة، دهشته من هذه العملية قائلاً: “أنها لمعجزة لم يسمع أحد بمثلها من قبل ولم ير أحد مثلها من قبل”.
وبعد أن فشلت البحرية العثمانية في إحباط محاولة جوستنياني دخول الخليج لم يملك السلطان محمد إلا الأمر بالهجوم العام الذي اشتركت فيه كل القوات العثمانية مرة واحدة، وقبل هذا مباشرة أرسل السلطان محمد للإمبراطور للمرة الثانية يطلب منه تسليم المدينة سلما حقنا للدماء، وللإمبراطور أن ينسحب إلى أي مكان يريده بكل أمواله وخزائنه، وتعهد السلطان محمد بتأمين أهل القسطنطينية في هذه الحالة على أموالهم وأرواحهم وممتلكاتهم، لكن الإمبراطور بتحريض من الجنوبيين رفض هذا العرض.
وفي 26 مايو أراد ملك المجر أن يضغط على السلطان محمد وهو في هذا الوقت الحرج، فأرسل يقول له أنه في حالة عدم توصل العثمانيين إلى اتفاق مع إمبراطور القسطنطينية فإنه (أي ملك المجر) سيقود حملة أوروبية لسحق ا لعثمانيين، ولم تغير هذه الرسالة شيئاً وإن كان محمد قد صفى بعد ذلك حسابه مع ملك المجر.
مضى نهار 28 مايو هادئاً، وعند الفجر وبعد الصلاة مباشرة، اتجه السلطان محمد إلى مكان الهجوم ومع دوي المدافع الضخمة الذي بدأ مع الشفق صدر الأمر السلطاني بإخراج العلم العثماني من محفظته، (وهذا يعني عند الأتراك الأمر ببداية الهجوم العام).
استطاعت المدافع أثناء ذلك إحداث فتحة في الأسوار ثم اجتاز الجنود العثمانيون الخنادق المحفورة حول القسطنطينية ومن ثم اعتلوا سلالم الأسوار، وبدأ الجنود يتدفقون على ثلاث موجات، اشتركت الانكشارية في الثالثة منها، فاضطر قسطنطين أن يدفع بقواته الاحتياطية التي كانت مرابطة بجوار كنيسة الحواريين (سانت أبو ترس) (مكان جامع الفاتح بعد ذلك) لتدخل المعركة، وما لبث أن أطلق جندي عثماني سهمه فأصاب القائد جوستنياني أصابة بالغة وانسحب جوستنياني من ميدان المعركة رغم توسلات الإمبراطور له، لأن جوستنياني كان له دور كبير في الدفاع عن المدينة.(يتبع)
(محمد حرب عبد الحميد)