الوضع يجب أن يتغيَّر…..
14 مارس, 2024لماذا تُسْتَهْدَفُ الوحدة الإسلامية؟!
17 مارس, 2024عصافير الأقصى
د. أحمد صوَّان (تركيا)
كان أبي يجلس في مكتبه كل يوم بين صلاتي المغرب والعشاء ؛ فلديه أعمال كثيرة، فهو محام كبير، وأنا سعيد لأنه أبي، وأنا أحبه كثيراً، وقد اعتدت أن أقطع عمله كل يوم، ولكنّي لا أطيل الحديث معه عادة في هذا الوقت واليوم كالعادة طرقت الباب ودعاني للدخول فمددت رأسي، وقلت:
– العصفور الدوري يُريد أن يُسلّم عليك يا أبي.
ابتسم أبي، وأشار بيديه أن أقبل، وقال:
– أنا أحب العصفور الدوري حبا جما، وماذا يريد هذا العصفور يا ترى؟
أجبته بسعادة:
– العصفور يريد شيئين: السلام واقتراحًا.
رد أبي باهتمام
– وعليك السلام أيها البطل أثرت المكان، وما اقتراحك يا فاتح؟
في هذه الأثناء كنت وصلت إلى مكتب أبي، وأشرت إلى هاتفه، وقلت:
– أقترح أن تتصل بعمتي الآن، لا شك أنها اشتاقت لك.
رد :أبي وأنت لمن اشتقت؟ لوليد؟
عرف أبي قصدي من هذا الاتصال فأنا أحب ابن عمتي وليدا، وهو يسكن في حي الزيتون في غزة، ولا أستطيع أن أتصل به في كل وقت، فأحيانا ليس لديه كهرباء، وأحيانًا ليس لديه اتصالات.
حمل أبي هاتفه، وبدأ يتصل ونظر إلي، وقال:
أحلى اقتراح!..
بدأ أبي يتحدث مع عمتي عن أحوالها قبل أن يعطيني الهاتف، وسألها عن أولادها الستة، ثم أخبرها خبراً تفاجأت، منه سُررت به سروراً كبيراً، أخبرها أننا سنزورهم في عطلة منتصف العام بعد الامتحانات وشرَدْتُ، وأبي يتحدّث مع عمتي، وتذكرت زيارتي الأخيرة قبل شهرين إلى بيت عمتي بجانب جامع كاتب الولاية إنه جامع أثري صليت فيه، والتقطت صورا تذكارية وعرضت بعض هذه الصور في معرض مدرستي في إسطنبول، ودَنَوْتُ من أبي ليتذكر أنني أريد أن أتحدث مع ابن عمتي وليد، وإذا بي أسمع صوتا فظيعًا آتيًا من الهاتف! فصاح أبي:
– سعاد! سعاد!…
اقتربت من سماعة الهاتف، وصرت أستمع مع أبي هناك أصوات انفجارات رهيبة، وأبي يصرخ:
– سعاد سعاد!
بدأت أبكي، فقد تذكرت هذه الأصوات، إنها هي.. هي… سمعتها وعشتها عندما كان عمري خمس سنوات، فقدت أمي وإخوتي، وبقيت أنا وأبي، ثم نزحنا، وسنعود إن شاء الله.
بدأ أبي بالبكاء أيضًا، وصار يكرر بصوت مخنوق:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، سعاد! سعاد!..
ولا أحد يجيبه، بدأ صوت الانفجار يضعف، وأصغيت أنا وأبي إلى الأصوات، وبدأنا نسمع أنينًا خافتًا:
– آه آه..
وسمعت صوتا يخفت شيئًا فشيئًا:
– وليد… محمد… هناء…
ثمّ ضعف الصوت أكثر فأكثر حتى تلاشى، ثم أسرع أبي نحو التلفاز، وإذ بصور تأتي من غزة مباشرة، ورأيت شارع عمر المختار، أعرفه ثم رأيت جامع كاتب الولاية، وصرخت:
– هذا بيت عمتي! هذا المكان!
كانت العمارة قد تهدمت من طرفها، وتكدست طوابقها كأطباق الطعام بعضها فوق بعض، كان أبي في هذه الأثناء يدعو ربه:
– ربي.. سلم سلّم .. لطفك يا الله!
وكنت أردّد، والدموع تنهمر من عيني:
– يا رب! يا رب!..
فقدَتْ عمتي في هذه الغارة الهمجية ثلاثة من أولادها الستة، وكان وليد مع المفقودين، ومن تلك اللحظة صرت أصوّر كل طفل قتله الصهاينة أو جرحوه في هذا الاعتداء على أهلي في غزة، وأنشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، وأكتب تحت كل صورة: “هذا الطفل صاحب الأرض”.
وقد رأيت صديقي مصطفى يفعل شيئًا مختلفًا، فهو يشاهد المقاطع المحزنة المؤلمة التي صورتها آلات التصوير في حاراتنا، ويُعيد إرسالها إلى مواقع المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، وإلى المسؤولين..
ورأيت صديقي عليًا يجمع المقاطع التي تظهر صبر الناس وإصرارهم على البقاء في أرضهم وتماسكهم…
ولم أنس ابن عمتي وليدا، ولن أنساه، فنشرت عنه خبراً عنوانه: عصفور الأقصى”، وأرفقت به صورة من زيارتي الأخيرة له.
وأنا الآن أتابع مراسلاتي عند خالتي مع أبنائها، وأبي سافر إلى مصر، وهو ينتظر عند معبر رفح، ليُشارك في إدخال المساعدات، ويتواصل مع الحقوقيين في العالم ولن يستمر العدوان على غزة، فلا بُدّ أن يعود الحق إلى أهله، وقد وصلت إلى تعليقات كثيرة من كل أنحاء الدنيا تؤيد حقنا في أرضنا، وحق عصافير الدوري فيها. (مع الشكر لمجلة “الأدب الإسلامي”، العدد: 121)