العادل كما يصفه الحسن البصري رحمه الله
12 يناير, 2023بركات الإيمان
5 مارس, 2023الإسراء والمعراج
العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي
)سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( [الإسراء:1].
إن هذا الإسراء من مكة إلى القدس، ومنه إلى السماء دلَّ على معان عميقة بعيدة الأثر، طويلة المدى في تاريخ النبوات والديانات وفي المسيرة الإنسانية.
فدلَّ أولاً على أن شخصية الرسول تلتقي فيها الأرض بالسماء، والجزيرة العربية بأرض النبوات الأولى، الأرض التي بارك الله حولها، ويلتفي زمن النبوات الأولى بعهد النبوة الأخيرة، فأي التقاء أكبر وأوسع وأجمل من هذا الالتقاء، فالبشرية تلتقي بمصدر النبوات والهدايات السماوية، والأرض تلتقي بالسموات العلى، إنه إذا انقطعت صلة الأرض بالسماء كانت هنالك متاهات وضلالات، وسخافات وسفالات، فوصل الله الأرض بالسماء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإسراء به، فهذه الأمة أمينة لهذا الاتصال، أمينة لهذا الالتقاء الأرضي والسماوي، والزمني والمكاني، القاضي على الحدود الجغرافية، والحواجز المكانية، والفوارق الزمنية،والاعتبارات العنصرية والجنسية، ويجب أن يتجلى هذا الالتقاء الكريم الفريد في كل مناهج حياتها، وفي حضارتها واجتماعها، وفي علمها وفي تفكيرها، وفي فسلفاتها وأدبها، وفي خيالها وجمالها.
وفوق ذلك إن سورة الإسراء إعلان بأن بني إسرائيل قد فقدوا الجدارة والصلاحية للهداية الربانية، وتقلد الزعامة الدينية، وقيادة البشرية، لما أصابهم من أمراض خلقية، وانحرافات عقائدية، دينية روحية، باطنة وظاهرة، فهذه السورة فصل وفارق بين عهد وعهد، وبين زمن وزمن، لذلك سميت سورة بني إسرائيل كذلك، إن بني إسرايل قد فقدوا ـ على مر الزمان ـ الصلة الوثيقة العميقة بالإنسانية، ومصيرها ووضعها، ومشكلاتها وحلولها، والتفكير الإنساني الرحيم الرقيق، بالعكس عكفوا على السلالة يقدسونها وينظرون إلى كل قضية من قضايا الإنسانية من زاويتها، ويزنونها بموازين تعود على السلالة بالنفع والقوة، والله رب العالمين ليس رب بني إٍسرائيل فقط، فعزلوا عن المنصب الذي قلدوه قروناً عديدة، واختيرت له الأمة التي بعثها الله سبحانه وتعالى مع النبي الموعود الأخير محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي العربي صلى الله عليه وسلم، الأمة التي عهد إليها نشر عقيدة التوحيد الصافية، والأخوة الإنسانية، والمساواة البشرية، فأعلن القرآن في لفظ صريح واضح: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( [الحجرات:13]. ونادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج الأكبر:” ،” أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى”.
ولما كان ذلك تحولاً كبيراً من أعظم التحولات في تاريخ الديانات، وفي تاريخ مصائر الأمم، وفي تاريخ الوقائع البشرية، كان هذا الحدث العظيم جديرًاً بأن يطلب الله النبي الكريم إلى السماوات العلى ويسلمه منصب القيادة بطريق مباشر ويشرفه بالقرب والتكريم الذي لم يتلق به أحداً من قبله.
إخواني! إن اليهود لا مستقبل لهم إذا كان الله حكيماً رحيماً، وإذا كان الله رب الأجيال البشرية كلها ورب العالمين، لا رب خراف بني إسرائيل الضائعة، فلا مستقبل لليهود أبداً ولو فتحوا العالم كله ـ لا قدر الله ـ لأن اليهود أمة تقوم على تقديس العنصر والسلالة،أمة تقوم على الحقد للبشرية والتاريخ كله، أمة تقوم على الأحلام والأماني السلالية والشعبية فقط، ولا شأن للإنسانية بهذه الأماني والأحلام، إن حاجة الإنسانية أمة تقود البشرية كلها وتربط مصيرها بمصير البشرية، لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الجيل البشري ليكون عبداً لسلالة خاصة، هذا ما لا يسوغه ويسيغه عقل بشري، فكيف بالله تبارك وتعالى، إن اليهود ليست لهم أصول ولا جذور في الأرض، إنما هو شيء طافئ على سطح الماء.
إن الإسراء أيها الإخوان لم يكن ليكون عيداً في الأمة يحتفل به كل عام، إن الإسلام ليس دين الأعياد كما هو الشأن في ديانات أخرى، فإنها تقوم على الأعياد والمهرجانات، والأيام التي تحتفل بها، وإذا أخذ كل عيد تحتفل به طائفة من طوائفها، كانت أيام السنة كلها أعياداً ومواسم، والأعياد هي التي تربط المجتمعات في هذه البلاد بالديانات، فلولا هذه الأعياد والمهرجانات لضاعت الديانات ونسيت، فإنهم يجتمعون في هذه الأعياد ويذكرون ما عندهم من عادات، وطقوس وعبادات، فيقيمونها، وبذلك ينتظم شملهم .
إن الإسراء والمعراج لاشك خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه سمو للإنسانية عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تبارك وتعالى قد ضرب مثالاً ـ وإن كان هذا المثال مختصاً بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ـ ولكنه نبي بشر، فيشير إلى أن هنالك يبلغ البشر وإن كان مرة واحدة، ولكنه هو البشر الذي وصل، ولم يبلغه غير البشر، هذا يثير فينا السمو، ويثير فينا الثقة بالإنسانية وكرامتها.
والشيء الثاني أن هذا الدين مرتبط بالسماء، مرتبط بإرادة الله تبارك وتعالى، ليس مرتبطاً بالتجارب البشرية، ليس مرتبطاً بالعقل البشري، ليس مرتبطاً بالمجهود البشري، بل مصدر هذا الدين هو السماء.
والمعنى الثالث أن سورة الإسراء تثبت أن هذه الرسالة عالمية إنسانية، فإذا كانت غير هذا ودون هذا، لما طلب محمد صلى الله عليه وسلم من جزيرة العرب ـ وهو نائم في مكة ـ إلى القدس، ثم إلى السماوات العلى، إن اتصاله أولاً بالأرض المقدسة بفلسطين التي هي بعيدة من جزيرة العرب، ثم اتصاله بالسماء، يدل على أن هذه الرسالة عالمية آفاقية ليست محصورة في جزيرة العرب، وإلا أي حاجة دعت إلى أن يطلب الله رسوله إلى القدس اولاً ليصلي هناك بالأنبياء عليهم السلام، ثم يطلبه إلى السماوات؟ فلنعرف أن مركزنا أكبر مما نحن فيه وإن مسوليتنا أضخم مما نضطلع بها، إن هذا البلد هو أصغر منا، وإن البلاد مهما اتسعت بل إن الأرض كلها، أصغر من شخصيتنا، نحن أمة الرسالة، نحن أمة الهداية، نحن أمة العالم وأمة الإنسانية، لسنا عرباً ولا عجماً، لسنا أردنيين وسوريين، وفلسطينيين وهنوداً وباكستانيين فحسب، نحن أمة نبي الإسراء والمعراج، الذي انعدمت فيه الأبعاد والمسافات، والحواجز الجغرافية والاعتبارات السياسية، والفوارق الجنسية.
هذه كلها معان وحقائق نستطيع أن نتلقاها ونتعلمها من ثنايا سورة الإسراء التي ضمنها الله القرآن الكريم الذي يدوم ويثبت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن القضية في إنقاذ فلسطين، قضية العقيدة وقضية الأخلاق، قضية العزم الصادق، فإذا صحت العزائم وصدقت القلوب، زال اليهود كما يتقشع الضباب، نحن في حاجة إلى تربية جديدة، تربية إسلامية، إلى عقيدة كأنها عقيدة جديدة، لسنا في حاجة إلى دين جديد ـ حاشا الله ـ ولكننا في حاجة إلى إيمان جديد، إذا كانت الأحوال غير عادية احتاج الإنسان فيها إلى إيمان غير عادي، إلى إيمان قوي عميق، إلى إيمان حي دافق، إلى إيمان إذا لم يكن إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم فليكن إيمان صلاح الدين الأيوبي، وكثير من الجنود التي قامت تحت رايته، يقول القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد عن صاحبه صلاح الدين الأيوبي:”إنه تاب عن المحرمات وترك الملذات ورأي أن الله سبحانه وتعالى خلقه لأمر عظيم لا يتفق معه اللهو والترف، وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، وكان كالفاقدة ولدها، الثاكلة واحدها”.
هنالك تبرز من أطماركم وأجسادكم شخصيات جديدة تقفز من الداخل وتفاجئ العالم، وقد وقع ذلك مراراً في التاريخ الإسلامي، فإذا أظلمت الآفاق، وإذا غارت النجوم، طلع نجم جديد على أفق العالم الإسلامي، هكذا كان وهكذا سيكون إن شاء الله .
ولا بد لذلك أن ننشيء نفوسنا على التقشف وتحمل المشاق وعلى الشدة والجلادة والغيرة الإيمانية، وإيثار الآخرة على العاجلة، والاستهانة بالحياة الدنيا وزخارفها.