رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ
27 يناير, 2020مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
5 مارس, 2020سمو الهمة
عن أنس رضي الله عنه أَنَّ الْأَنْصَارَ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ السَّوَانِي، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُمْ أَوْ يَحْفِرَ لَهُمْ نَهْرًا، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ” لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا أُعْطُوهُ “. فَأُخْبِرَتِ الْأَنْصَارُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعُوا مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: ادْعُ اللهَ لَنَا بِالْمَغْفِرَةِ، فَقَالَ: “اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ”.
تخريج الحديث: أحرجه أحمد في مسنده برقم: (13226) وفي فضائل الصحابة برقم: (1451) والحاكم في المستدرك: (6975) والبزار في مسنده المسمى بـ البحر الزخار برقم: (7305) والنسائي في السنن الكبرى (10073) وفي عمل اليوم والليلة برقم: (314).
شرح الحديث: في هذه القصة نموذج رائع لسمو الهمة وشموخ العزيمة وشرف الغاية وبعد المرمى، فهؤلاء هم الأنصار الذين فدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنفس والمهج، وشاطروا المهاجرين الأملاك والأموال والعقار، وضحوا في سبيل الدين بكل غال ونفيس، ذات مرة يقع في أنفسهم ويخطر ببالهم أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدموا إليه الرجاء في تسهيل أمر المياه، ولما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بإجابتهم إلى طلبهم، وطاب نفسا بإسعافهم بحاجتهم،فأعلن أنه “لا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا أُعْطُوهُ ” فرأى الأنصار أن هذه فرصة سانحة لطلب الأعلى والأسمى والأغلى والأبقى، فغيروا إرادتهم وسألوه أن يدعو لهم بالمغفرة، ذلك أن وسائل الدنيا ومرافقها وأسباب الراحة فيها كلها ظل زائل ونعيم راحل، والمغفرة والرضوان من الله تعالى وجنته خير وأبقى، ولله در الإمام ابن القيم إذ قال: “وَلِلَّهِ الْهِمَمُ! مَا أَعْجَبَ شَأْنَهَا، وَأَشَدَّ تَفَاوُتَهَا. فَهِمَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَهِمَّةٌ حَائِمَةٌ حَوْلَ الأَنْتَانِ وَالْحُشِّ. وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ الْمَرْءِ مَا يَطْلُبُهُ. وَخَاصَّةُ الْخَاصَّةِ تَقُولُ: هِمَّةُ الْمَرْءِ إِلَى مَطْلُوبِهِ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْهِمَمِ، فَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ «رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْنِي فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ”. وَكَانَ غَيْرُهُ يَسْأَلُهُ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ، أَوْ يُوَارِي جِلْدَهُ.
وَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ الْأَرْضِ فَأَبَاهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا لِأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى. فَأَبَتْ لَهُ تِلْكَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَمَحَابِّهِ. وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْمُلْكِ، فَأَبَاهُ. وَاخْتَارَ التَّصَرُّفَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِقُ هَذِهِ الْهِمَّةِ، وَخَالِقُ نَفْسٍ تَحْمِلُهَا، وَخَالِقُ هِمَمٍ لَا تَعْدُو هِمَمَ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ. (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 3/140)
عبد الرشيد الندوي