أمراض المجتمع وعلاجها (6)
10 ديسمبر, 2024الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك
25 ديسمبر, 2024أمراض المجتمع وعلاجها (7)
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
- 7. الرياء والسمعة:
وأما الرياء فهو أيضًا من الأمراض الباطنة، وهو نتيجة لحب الظهور والسمعة والإعجاب بالنفس، ومن طبيعة الإنسان أنه يحب الاحترام والإكرام، ولا يحتمل أي إهانة وإساءة إليه، إنه يحب دائمًا أن ينال الحفاوة والإكرام في كل مكان، وإن هذه الرغبة ليست غير محمودة إذا كانت باعتدال، بل إن الاعتداد بالنفس محمود، لكن عندما تتطور هذه الرغبة إلى حب الظهور والذات، يصبح الإنسان يقوم مرائيًا للآخرين بأعمال تجعله محبَّبًا ومكرَّمًا لدى الناس، الأمر الذي يجعله مبغوضًا مكروهًا عند الله، وتنكشف حقيقته أمام الناس بمرِّ الزمن، فيفقد مكانته وعزه في المجتمع.
وإن هذا السلوك ينافي روح الإخلاص الذي هو الأساس في قبول الأعمال، فقد ورد في حديث قدسي: “قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ”. (صحيح مسلم: كتاب الرقاق، باب من أشرك في عمله:7666) وهذا الشرك الخفي مرض شديد الخطورة، ويؤدي إلى ذهاب الحسنات سُدى، وحبط الأعمال.
فقد روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه–سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ”. (صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة:5032)
وبعد التوحيد، يأتي الإخلاص في الأهمية، فالشرك يحبط الأعمال كلها، وكذلك الرياء يفسد كل عمل يُقَامُ به بدون إخلاص، ويُؤدى رياء وسمعة.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ”. (صحيح البخاري: باب كيف مان بدء الوحي:1)
وفي حديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ”. (جامع الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع: 2870)
فلابد من استحضار النية عند القيام بأي عمل، والتأكُّد من ألاَّ يكون العمل إلا ابتغاء مرضاة الله، فيجب أن يكون العمل مصحوبًا بروح الإيمان والاحتساب، كما يجب المحاسبة والمراقبة أثناء العمل لضمان بقائه مخلصًا وسليمًا من كل ما يحبطه ويفسده، وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن صيام رمضان وقيامه ذُكر: أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”. (صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب من صام إيمانا…:1901)
ويحكى عن أحد الصالحين أنه كان يقرأ القرآن بخشوع شديد وصوت جميل، وفي أثناء تلاوته، مرّ أحد الأشخاص، ففكر الشيخ أن إظهار هذه الحالة أمامه قد يُحدث أثرًا إيجابيًا عليه. فزاد من جمال تلاوته ليُظهر خشوعه بصورة أوضح. فرأى في المنام ليلةً مشهد القيامة حيث تُعرض صحائف الأعمال. وعندما تسلّم صحيفته، وجد فيها تلاوة ذلك اليوم، ولكن غابت الآيات التي قرأها بنية الرياء لإظهار خشوعه. فسأل عن السبب، فأُجيب: لأن هذه الآيات قُرئت لإرضاء الناس لا لوجه الله، فكان جزاؤك الحرمان من ثوابها.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟”. قَالَ: قُلْنَا: بَلَى. فَقَالَ: “الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ”. (سنن ابن ماجه: أبواب الزهد، باب الرياء والسمعة:4344)
وعن أبي موسى رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. (صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله…:5028)
وفي الحديث الشريف أنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”. (صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم:6707).