التضامن الإسلامي
26 نوفمبر, 2022الدعامة الأولى لبناء الحياة الصالحة المطلوبة
12 يناير, 2023أفتش عن إنسان
محمد وثيق الندوي (مدير التحرير)
لاشكَّ في أنَّ الحضارة الحديثة أتت بفوائد كثيرة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، اخترعت وسائل وآلات تسعد بها الإنسانية، وانحلت بها مشاكل كان الإنسان يعاني منها في الماضي،كوسائل المواصلات والاتصالات،ووسائل رفاهية الإنسان، ووسائل وقايته وصيانته، ووسائل التسلية والترفيه، وتهيئة فرص إمتاع النفس، كما رفعت الحضارة المعاصرة مستوى الإنسان تعليميًا واقتصاديًا، واعتنت برعاية الصحة العامة بتوفير تسهيلات للطب،كما رفعت الحضارة المعاصرة مستوى إنتاج الطاقة واستعمالها لراحة الإنسان وصالحه، وقد ازدادت بها الإنتاجية العامة، فإن هذه الوسائل التي هيأتها الحضارة المعاصرة تصبُّ في صالح الإنسان، وتنفعه في حياته، وتستحق الإشادة والتقدير.
ولكن الإنسان في الحياة المعاصرة فَقَدَ بسبب هذه الحضارة المادية الحديثة-كما كتب المفكر الإسلامي محمد واضح رشيد الحسني الندوي-:” طمأنينة قلبه، وقناعته التي كانت مصدر هدوء باله، فكان الإنسان الذي يعيش سعيدًا في شقائه بالأمس يشقى اليوم، وتطارده الهموم والأحزان في وسائل سعادته التي يكد ويجتهد لتكديسها، فكانت طمأنينة القلب الضحية الأولى في الحياة المعاصرة، حتى الأطفال وصغار السن الذين يقال عنهم إنهم لا يعرفون الهمّ لا تخلو أذهانهم من الهموم، فكانت وفاة أقرب أقربائهم لا تقلق بالهمَّ، فكان الأطفال يمرحون إذا اجتمع أقرانهم حتى في المآتم، ولكن هذا الصغير في الحياة المعاصرة يحمل من الهموم كما يحمل الكبار الهموم والأحزان، ويمكن أن يقال أن معرفة الأشياء قد زادت من الهموم، أو أن الحياة الصاخبة اليوم قد زادت من الحساسية. وسلبت الحياة المعاصرة الشعور بالأمن والسلامة، فقد كان الإنسان في القديم يطمئن على نفسه وأولاده في الأكواخ والغابات، والإنسان اليوم لا يطمئن على نفسه وأهله وماله، وهو في القصور الشامخة، بل وهو في حفظ الحراس، فلا يثق الإنسان بحراسه وخدمه، وحتى بأهله، فكثيرًا ما نقرأ في الصحف أن الأولاد يعتدون على آبائهم، والآباء يعتدون على أولادهم، والحراس يعتدون على سادتهم، والإخوة يعتدي بعضهم على بعض، وتكثر الجرائم في الأحداث والشباب، فلا تخلو من هذه الأخطار دور الأغنياء ولا الفقراء، ولا دور التعليم والكفالة، ولا السجون، وإن الإنسان في هذه الحياة غير آمن في عقيدته ولا منهج حياته، ولا سلوكه، فيفرض عليه اتباع عقيدة مغايرة لعقيدته، ومنهج مغاير لمنهج حياته، وسلوك مغاير لسلوكه، ويفرض الإلحاد على متبعي الأديان بقوة السلاح والحكم، ومحاربة عقيدة لإقرار عقيدة، وإحلال ثقافة محل ثقافة، يتكرر عملها في هذا العصر”.(كتاب “إلى نظام عالمي جديد”،ص:120-121)
وبسبب غلبة الحضارة المادية الجامحة مات الضمير الإنساني، والشعور الإنساني، فأصبح عبئًا على غيره، ودائرًا في حلقة ضيقة،فيعيش لنفسه،ولا يهمه ما يعانيه أخوه الإنسان، وإذا فقد الإنسان الشعور بالحزن والسرور،والشعور بالسعادة والهناء، والشعوربالشقاء و الحرمان، والشعور بما يليق به وما لا يليق به،أصبح وحشيَّ الغريزة والطبيعة رغم كونه إنسيَّ المولد والمنشأ،ففُقِدَ الإحسان، والرحمة والمحبة، والعدل والأمانة، والمؤاساة والأخوة، والتعاطف والتعاون، والشعور بشقاء الآخرين ومعاناتهم، وعمَّ السلب والنهب، والحرص والشح، والظلم والاعتداء، والاستهزاء والسخرية، والحقد والضغينة، والحسد وسوء الظن،والشماتة والأثرة،فأصبح “الإنسان الحقيقى” اليوم عنقاء مغرب، كما صوَّر أديب العربية مصطفى لطفي المنفلوطي، فيقول:
” لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسنًا، لأني لأعتمد فصلاً صحيحًا بين الإنسان والحيوان، إلاَّ الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يحسن إلى نفسه ولا يحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعًا، ورجل لا يحسن إلى نفسه ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، وأما الرابع وهو الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكانًا ولا أجد إليه سبيلاً، وأحسب أنه هو الذي كان يفتش عنه الفيلسوف اليوناني “ديوجين الكلبي” حينما سئل ما يصنع بمصباحه، وكان يدور به في بياض النهار، فقال: ” أفتش عن إنسان”. “
لقد فقد الإنسان في الحياة المعاصرة جميع القيم والمثل والأخلاق والخصائص التي تميز الإنسان عن الحيوان، وتجرَّد عن الشعور الذي هو من صفاته الجوهرية،فأصبح اليوم فاقد الشعور، وحياته حياة فردية، يسعى إلى نفعه، ولا يهمه غيره مهما ازدادت وتفاقمت معاناته، ولا يلتفت إلى الحياة الاجتماعية.
فإن الإنسان اليوم فقد الشعور الإنساني، والوعي، والضمير الحي، فهو إنسان في ظاهره، في ملبسه، ومسكنه، ونشأته؛ لكنه وحشيٌّ في ميوله، وغرائزه، وطبيعته،لأنه تجرَّد وانسلخ من صفاته الجوهرية وصفاته الأساسية التي أكرمه الله بها،وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، فهو رغم تقدُّمه في مجالات العلم والاكتشاف والتحقيق ووسائل الراحة والهناءة، كما جاء في القرآن الكريم )لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ( (الأعراف: 179)
فإن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يسعد إلا إذا سادته روح التعاون والمؤاساة والإيثار، والتسامح، والتعاطف،والإحسان، والرحمة والمحبة، والعدل والمساواة،والأخوة، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود الشعور الإنساني، والشعور بالأخوة الإنسانية، فيتألم الإنسان بآلام أخيه، ويشعر بالسعادة بسعادة أخيه، وهذا المجتمع هو حاجة اليوم،ولا يستطيع أي دين أو فلسفة أو نظرية،أن ينشئ المجتمع الإنساني الفاضل المطلوب إلا الإسلام، وهو دين الفطرة.